فيا إلهي ما أعظمه من إيمان، وما أقواه من إرادة صلبة كالفولاذ، وما أعلاه من صبر لا يعرف النفاد إليه سبيلاً، وما أرفعه من رأس يتأبّى الخضوع للعبيد، وما أعلاه من صوت لا يخفت ومن أنفاس لا تُخنق بالرغم من المضايقات والتهديدات التي تُرعد حتى الخيال وتُصبغ مشاهد الذكريات بالوجل والخوف!.

انظروا، ماذا يعد الله للمجاهدين في هذه الآية الكريمة: ﹛﴿وَالَّذ۪ينَ جَاهَدُوا ف۪ينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَاِنَّ اللّٰهَ لَمَعَ الْمُحْسِن۪ينَ﴾|﹜ (العنكبوت:٦٩).

أجل، إن المجاهدين الذين باعوا أنفسهم ودنياهم لله في طريق الإيمان والقرآن يبشرهم بالهداية إلى سُبله، ولا شك أن الله لا يخلف وعده إذا تحقق ما يستوجب هذا الوعد الإلهي من الشروط. فتغدو هذه الآية الكريمة مرشداً نورانياً في تحليل شخصية الأستاذ النورسي وسيرته، بحيث نتمكن من رؤية أدق القسمات وأصغر النقاط كأنها حزمة لامعة مضيئة. وحين يكون الإنسان محط نعمة الله في الحفظ والحماية، فلا يكون للخوف والترهيب والحزن والملل والنكوص وأمثالها من الأمور أهمية تذكر. فأية غيوم قاتمة السواد تتمكن من إلقاء ظلها في قلب منوّر بنور الله، وأي أمل فانٍ ومطلب زائل والتفاتة غادية وتوجّه عاجز وغاية تافهة ومغانم سفلية نفسانية تستطيع تسكين وطمأنة وتسلية روح عبدٍ تحظى بالصلة الربانية وتتشرف بالحضور السبحاني في كل آن ولحظة..

إن بديع الزمان شخصية تمتاز بعناية ربانية خارقة، لذا غدت السجون، كرياض يشهد من خلالها الآفاق النورانية للعوالم الأبدية، وتعتبر أعواد المشانق ومنصة الإعدام محافل وعظه وكراسي إرشاده، فيلقي من فوقها دروس الصبر والثبات والمتانة والرجولة للإنسانية في سبيل غاية سامية. وتنقلب المعتقلات «مدارس يوسفية»، يدخلها كما يدخل الأساتذة الجامعات لإلقاء الدروس، لأن الموجودين فيها من المسجونين يعدّون تلامذة محتاجين إلى فيضه وإرشاده، ويعتبرُ إنقاذ بضع من المواطنين وإدخالهم إلى حظيرة الإيمان وجعل بعض الجناة إنساناً كالملك سعادةً لا تستبدل بشيء من متاع الدنيا الزائلة.

وإنسان يحمل في قلبه مثل هذا الإيمان والإخلاص ويستشعره في كينونته كل آن، لا بد أنه يدع تأثير البريق الكاذب الذي يخلفه مفهوما الزمان والمكان على أبناء الفناء القاصرين

Yükleniyor...