سنة ١٩١٩م/ ١٣٣٦ه
عودة الصحوة الروحية
«عندما رجعت من الأسر، كنت أسكن مع ابن أخي «عبد الرحمن» في قصر على قمة «ﭼاملجة» في إسطنبول. ويمكن أن تعتبر هذه الحياة التي كنت أحياها حياة مثالية من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا؛ ذلك لأنني قد نجوت من الأسر، وكانت وسائل النشر مفتوحة أمامي في «دار الحكمة الإسلامية» وبما يناسب مهنتي العلمية، وأن الشهرة والصيت والإقبال عليّ تحفّ بي بدرجة لا استحقها، وأنا ساكن في أجمل بقعة من إسطنبول «جاملجة»، وكل شيء بالنسبة لي على ما يرام، حيث إن ابن أخي «عبد الرحمن» -رحمه الله- معي، وهو في منتهى الذكاء والفطنة، فهو تلميذ ومضحّ وخادم وكاتب معاً، حتى كنت أعدّه ابناً معنوياً لي.
وبينما كنت أحس بأني أسعد إنسان في العالم، نظرت إلى المرآة، ورأيت شعيرات بيضاء في رأسي وفي لحيتي، وإذا بتلك الصحوة الروحية التي أحسست بها في الأسر في جامع «قوصتورما» تبدأ بالظهور. فأخذتُ أنعم النظر وأفكر مدققاً في تلك الحالات التي كنت ارتبط بها قلبياً، وكنت أظنها أنها هي مدار السعادة الدنيوية. فما من حالة أو سبب دققت النظر فيه، إلّا رأيت أنه سبب تافه وخادع، لا يستحق التعلق به، ولا الارتباط معه. فضلاً عن ذلك وجدت في تلك الأثناء عدم الوفاء وفقدان الصداقة من صديق حميم، يُعدّ من أوفى الأصدقاء لي، وبشكل غير متوقع وبصورة لا تخطر لي على بال.. كل ذلك أدى إلى النفرة والامتعاض من الحياة الدنيا، فقلت لقلبي: ياتُرى هل أنا منخدع كلياً؛ فأرى الكثيرين ينظرون إلى حياتنا التي يُرثى لها من زاوية الحقيقة نظر الغبطة؟ فهل جُنَّ جنون جميع هؤلاء الناس؟ أم أنا في طريقي إلى الجنون، لرؤيتي هؤلاء المفتونين بالدنيا مجانين بلهاء؟! وعلى كل حال.. فالصحوة الشديدة التي صحوتها برؤية الشيب جعلتني أرى أولاً فناءَ ما أرتبط به من الأشياء المعرّضة للفناء والزوال!
ثم التفتّ إلى نفسي، فوجدتها في منتهى العجز!.. عندها صرختْ روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وقد تشبثت بالأشياء الفانية متوهمة فيها البقاء، صرخَتْ من أعماقها:
مادمتُ فانية جسماً فأي فائدة أرجوها من هذه الفانيات؟
عودة الصحوة الروحية
«عندما رجعت من الأسر، كنت أسكن مع ابن أخي «عبد الرحمن» في قصر على قمة «ﭼاملجة» في إسطنبول. ويمكن أن تعتبر هذه الحياة التي كنت أحياها حياة مثالية من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا؛ ذلك لأنني قد نجوت من الأسر، وكانت وسائل النشر مفتوحة أمامي في «دار الحكمة الإسلامية» وبما يناسب مهنتي العلمية، وأن الشهرة والصيت والإقبال عليّ تحفّ بي بدرجة لا استحقها، وأنا ساكن في أجمل بقعة من إسطنبول «جاملجة»، وكل شيء بالنسبة لي على ما يرام، حيث إن ابن أخي «عبد الرحمن» -رحمه الله- معي، وهو في منتهى الذكاء والفطنة، فهو تلميذ ومضحّ وخادم وكاتب معاً، حتى كنت أعدّه ابناً معنوياً لي.
وبينما كنت أحس بأني أسعد إنسان في العالم، نظرت إلى المرآة، ورأيت شعيرات بيضاء في رأسي وفي لحيتي، وإذا بتلك الصحوة الروحية التي أحسست بها في الأسر في جامع «قوصتورما» تبدأ بالظهور. فأخذتُ أنعم النظر وأفكر مدققاً في تلك الحالات التي كنت ارتبط بها قلبياً، وكنت أظنها أنها هي مدار السعادة الدنيوية. فما من حالة أو سبب دققت النظر فيه، إلّا رأيت أنه سبب تافه وخادع، لا يستحق التعلق به، ولا الارتباط معه. فضلاً عن ذلك وجدت في تلك الأثناء عدم الوفاء وفقدان الصداقة من صديق حميم، يُعدّ من أوفى الأصدقاء لي، وبشكل غير متوقع وبصورة لا تخطر لي على بال.. كل ذلك أدى إلى النفرة والامتعاض من الحياة الدنيا، فقلت لقلبي: ياتُرى هل أنا منخدع كلياً؛ فأرى الكثيرين ينظرون إلى حياتنا التي يُرثى لها من زاوية الحقيقة نظر الغبطة؟ فهل جُنَّ جنون جميع هؤلاء الناس؟ أم أنا في طريقي إلى الجنون، لرؤيتي هؤلاء المفتونين بالدنيا مجانين بلهاء؟! وعلى كل حال.. فالصحوة الشديدة التي صحوتها برؤية الشيب جعلتني أرى أولاً فناءَ ما أرتبط به من الأشياء المعرّضة للفناء والزوال!
ثم التفتّ إلى نفسي، فوجدتها في منتهى العجز!.. عندها صرختْ روحي وهي التي تنشد البقاء دون الفناء وقد تشبثت بالأشياء الفانية متوهمة فيها البقاء، صرخَتْ من أعماقها:
مادمتُ فانية جسماً فأي فائدة أرجوها من هذه الفانيات؟
Yükleniyor...