روحي عن راحة في الوحدة والعزلة على «تل يوشع» المطل على البسفور. (33) فلما كنت -ذات يوم- أسرح بنظري إلى الأفق من على ذلك التل المرتفع، رأيت بنذير الشيخوخة لوحة من لوحات الزوال والفراق تتقطر حزناً ورقة، حيث جُلتُ بنظري من قمة شجرة عمري، من الغصن الخامس والأربعين منها، إلى أن انتهيت إلى أعماق الطبقات السفلى لحياتي، فرأيت أن في كل غصن من تلك الأغصان الكائنة هناك ضمن كل سنة جنائز لا تحصر من جنائز أحبابي وأصدقائي وكل مَن له علاقة معي، فتأثرت بالغ التأثر من فراق الأحباب وافتراقهم، وترنمت بأنين «فضولي البغدادي»(∗) عند مفارقته الأحباب قائلاً:

كلما حنَّ الوصال عَذبٌ دمعي مادام الشهيق

لقد بحثتُ من خلال تلك الحسرات الغائرة عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أسلّى بها نفسي، فإذا بنور الإيمان بالآخرة يغيثني ويمدّني بنور باهر، إنه منحني نوراً لا ينطفئ أبداً، ورجاءً لا يخيب مطلقاً. (34)

وعلى «تل يوشع» المطل على البسفور بإسطنبول، عندما قررت ترك الدنيا، أتاني أصحاب أعزاء، ليثنوني عن عزمي ويعيدوني إلى حالتي الأولى، فقلت لهم: «دعوني وشأني إلى الغد، كي أستخير ربي». وفي الصباح الباكر خطرت هاتان اللوحتان إلى قلبي، وهما شبيهتان بالشعر، إلّا أنهما ليستا شعراً، وقد حافظت على عفويتهما وأبقيتهما كما وردتا لأجل تلك الخاطرة الميمونة...

اللوحة الأولى (وهي لوحة تصور حقيقة الدنيا لدى أهل الغفلة)

لا تدعُني إلى الدنيا، فقد جئتها ورأيت الفساد.

إذ لما صارت الغفلة حجاباً، وسترتْ نور الحق..

رأيت الموجودات كلها، فانية مضرة

إن قلتَ: الوجود! فقد لبسته، ولكن كم عانيت من البلاء في العدم.

وإن قلتَ: الحياة! فقد ذقتها، ولكن كم قاسيت العذاب.

إذ صار العقل عقاباً، والبقاء بلاءً

والعمر عين الهواء، والكمال عين الهباء.


Yükleniyor...