وعندما سأله أستاذه: «أيّ من هذه العلوم يوافق طبعك؟» أجاب: «لا أستطيع التمييز بين هذه العلوم، فكلها سواء عندي، فإما أن أفهم جميعها حق الفهم أو لا أفهم منها شيئا».

كان يقرأ في هذه الشهور الثلاثة يومياً ما يقارب مئتي صفحة أو يزيد من متون أمهات الكتب أمثال: «جمع الجوامع» (36) و«شرح المواقف» (37) و«ابن حجر» (38) مع الفهم التام من دون معونة أحد. إلى حد أنه ما كان يُسأل سؤالا عن أي علم كان إلّا ويجيب عنه إجابة شافية، فاستغرق في القراءة والدراسة حتى انقطعت علاقته مع الحياة الاجتماعية.

وكان نادراً ما يتكلم، ويقضي معظم أوقاته عند ضريح الشيخ «أحمد الخاني»(∗) الأديب الكردي الشهير وخاصة في الليالي، علماً أن الناس يترهبون من دخوله نهاراً. ولهذا كان الناس يقولون: إنه حظي بفيض من «أحمد الخاني» ويسندون وضعه هذا إلى كرامة الشيخ.

ثم قرر الذهاب إلى بغداد -لزيارة علمائها- وتزيا بزي الدراويش وانطلق يقطع الجبال الوعرة والغابات الكثيفة ليل نهار مشياً على الأقدام، سالكاً مسلك الزهاد، حيث بدأ بمزاولة الرياضة الروحية وممارسة التزهد، حتى هزل يوماً بعد يوم ونحل جسمه ولم يعد يطيق هذا النوع من الرياضة، إذ كان يكتفي بقطعة من الخبز طوال ثلاثة أيام، سعياً لبلوغ حالة الحكماء الذين ينظرون إلى الرياضة الروحية إنها توقد الفكر.

واتخذ القاعدة النبوية الجليلة «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (39) دستوراً لحياته من زاوية التصوف الذي وصفه الإمام الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين» فترك كل ما فيه شبهة، حتى بدأ يقتات على الأعشاب، إلى أن وصل بتليس. (40)

Yükleniyor...