ثم ذهب إلى تلك الشجرة التي قضى معها أكثر من ثماني سنوات احتضنها وأجهش ببكاء طويل.

كانت هذه الشجرة قطعة من حياته، ومن ذكرياته. كم من ليال قضاها بين أغصانها يتهجد ويذكر الله! كم من ساعات قضاها يؤلف رسائل النور ويسمع حفيف أغصانها وأوراقها وتغريد الطيور عليها. كم من ليلة من ليالي الشتاء الطويلة الحالكة أرق في غرفته، فلم يكُن له أنيس في وحدته غير صوت هذه الشجرة تعصف بها الرياح، أو يسمع صوت قطرات الأمطار على أوراقها. لقد كانت له أنساً في وحدته، وسلوة في وحشته، وصديقاً في غربته.

وها هو الآن يرجع إليها بعد عشرين عاماً يتحسسها، ويريد أن يضمها إلى صدره ولا يتمالك نفسه من البكاء عند لقائها.

بعد ذلك صعد إلى غرفته، واختلى بنفسه هناك مدة ساعتين تقريباً. كان يبكي وهو يستعيد ذكريات أيامه الطويلة التي قضاها هنا، وكان الناس والطلاب المحيطون بالبيت يسمعون نشيج الشيخ فتدمع أعينهم كذلك.

وإنه لمظهر من مظاهر تجليات الرحمة الإلهية اللانهائية. ففي زمن قد سلف، نفي من شرقي الأناضول إلى أرجاء «إسبارطة»، ومنها إلى ناحية «بارلا» بين الجبال، لعله يموت هنا ويخبو ذكره. ولكن لم تثنه عن سبيل دعوة القرآن والإيمان حوادث العصر التي أحاطت بالأمم والشعوب وغيرت العقول والتصورات. فقد أيقن بيقين إيماني في روحه، بأن الشعب سوف يحتضن يوماً الحقيقة التي يدعو إليها، وسوف يكون سعيد الوحيد، ألف سعيد، ومائة ألف سعيد، وبأن فتوحات وانتشار الحقائق الإيمانية التي يخاطب بها الإنسانية آتية لا محالة، وبأن غيوم الظلمات المحيطة بالآفاق الإسلامية زائلة بنور الهداية التي اقتبسها من القرآن، وينشط الروح من جديد في الإيمان الذي يظنونه آيلاً إلى الموت، فيبعث النفوس ويعيد الحياة إلى أمة الإسلام.


Yükleniyor...