إلّا محلة الأرمن، فتألمت من الأعماق، وحزنت حزناً شديداً ما لو كان لي ألف عين لكانت تسكب الدموع مدراراً.

كنت أظن أنني قد نجوت من الاغتراب حيث رجعت إلى مدينتي، ولكن -ويا للأسف- لقد رأيت أفجع غربة في مدينتي نفسها؛ إذ رأيت مئات من طلابي وأحبتي الذين أرتبط بهم روحياً -كعبد الرحمن المار ذكره...- رأيتهم قد أهيل عليهم التراب والأنقاض، ورأيت أن منازلهم أصبحت أثراً بعد عين، وأمام هذه اللوحة الحزينة تجسّد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلّا أنني لم أكن أفهم معناها تماماً:

لَوْ لَا مُفَارَقَةُ الأحْبَابِ مَا وَجَدَتْ لَهَا الْمَنَايَا إلى أرْوَاحِنَا سُبُلاً (73)


أي إن أكثر ما يقضي على الإنسان ويهلكه إنما هو مفارقة الأحباب.

نعم، إنه لم يؤلمني شيء ولم يبكني مثل هذه الحادثة، فلو لم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيمان لكان ذلك الغم والحزن والهمّ يؤثر فيّ إلى درجة تكفي لسلب الروح منيّ. لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على أطلالها فرأيت بعيني لوحة الفراق الحزينة هذه.. فبكت روحي وقلبي مع عيني بحزن شديد كمن يمرّ بعد مائتي سنة على ديار أحبّته وأطلالها..

عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لحياتي أمام عيني وخيالي واحدة تلو الأخرى بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم السينمائي.. تلك الحياة السارة التي قضيتها في تدريس طلابي النجباء بما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الأماكن نفسها، التي كانت عامرة بهيجة وذات نشوة وسرور، فأصبحت الآن خرائب وأطلالاً. قضيت فترة طويلة أمام هذه اللوحات من حياتي، وعندها بدأت أستغرب من حال أهل الدنيا، كيف أنهم يخدعون أنفسهم، فالوضع هذا يبيّن بداهة أن الدنيا لا محالة فانية، وأن الإنسان فيها ليس إلّا عابر سبيل، وضيف راحل. وشاهدت بعينيّ مدى صدق ما يقوله أهل الحقيقة:

«لا تنخدعوا بالدنيا فإنها غدّارة.. مكّارة.. فانية..».

Yükleniyor...