القرآن المعجز بقوة وشدة، خطابه السماوي الرفيع في موت الإنسان وزواله، ووفاة ذوي الحياة وموتهم، وذلك بنص الآية الكريمة: ﹛﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَٓائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾|﹜ (آل عمران:١٨٥).

نفذ هذا الإعلان الداوي إلى صماخ أذني مخترقاً وممزقاً طبقات النوم والغفلة والسكرة الكثيفة الغليظة حتى استقر في أعماق أعماق قلبي.

خرجت من الجامع، فرأيت نفسي لبضعة أيام، كأن إعصاراً هائلاً يضطرم في رأسي بما بقي من آثار ذلك النوم العميق المستقر فيّ منذ أمد طويل، ورأيتني كالسفينة التائهة بين أمواج البحر المضطربة البوصلة. كانت نفسي تتأجج بنار ذات دخان كثيف.. وكلما كنت أنظر إلى المرآة، كانت تلك الشعرات البيضاء تخاطبني قائلة: انتبه!.

نعم، إن الأمور توضحت عندي بظهور تلك الشعرات البيضاء وتذكيرها إياي، حيث شاهدت أن الشباب الذي كنت أغتر به كثيراً، بل كنت مفتوناً بأذواقه يقول لي: الوداع! وأن الحياة الدنيا التي كنت أرتبط بحبها بدأت بالانطفاء رويداً رويداً، وبدت لي الدنيا التي كنت أتشبث بها، بل كنت مشتاقاً إليها وعاشقاً لها، رأيتها تقول لي: الوداع! الوداع! مشعرة إياي، بأنني سأرحل من دار الضيافة هذه، وسأغادرها عما قريب. ورأيتها - أي الدنيا - هي الأخرى تقول: الوداع، وتتهيأ للرحيل.

وانفتح إلى القلب من كلية هذه الآية الكريمة ﹛﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَٓائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾|﹜ ومن شموليتها ذلك المعنى الذي يتضمنها، وهوأن البشرية قاطبة إنما هي كالنفس الواحدة، فلا بد أنها ستموت كي تبعث من جديد، وأن الكرة الأرضية كذلك نفسٌ فلا بد أنها سوف تموت ويصيبها البوار كي تتخذ هيأة البقاء وصورة الخلود، وأن الدنيا هي الأخرى نفسٌ وسوف تموت وتنقضي كي تتشكل بصورة «آخرة».

فكرت فيما أنا فيه؛ فرأيت أن الشباب الذي هو مدار الأذواق واللذائذ ذاهب نحو الزوال، تارك مكانه للشيخوخة التي هي منشأ الأحزان، وأن الحياة الساطعة الباهرة لفي ارتحال، ويتهيأ الموت المظلم المخيف -ظاهراً- ليحل محلها.

ورأيت الدنيا التي هي محبوبة وحلوة ومعشوقة الغفاة ويُظن أنها دائمة، رأيتها تجري مسرعة إلى الفناء. ولكي أنغمس في الغفلة وأخادع نفسي ولّيت نظري شطر أذواق المنزلة


Yükleniyor...