قالوا: فما هي المدنية التي في الشريعة؟

قلت: «أما المدنية التي تأمرنا بها الشريعة الغراء وتتضمنها، فهي التي ستنكشف بانقشاع هذه المدنية الحاضرة، وتضع أسساً إيجابية بناءة مكان تلك الأسس النخرة الفاسدة السلبية.

نعم، إن نقطة استنادها هي الحق بدلاً من القوة، والحق من شأنه العدالة والتوازن. وهدفها الفضيلة بدلاً من المنفعة، والفضيلة من شأنها المحبة والتجاذب. وجهة الوحدة فيها والرابطة التي تربط بها المجموعات البشريةَ الرابطةُ الدينيةُ والوطنيةُ والمهنية بدلاً من العنصرية، وهذه شأنها الأخوة الخالصة، والسلام والوئام، والذود عن البلاد عند اعتداء الأجانب. ودستورها في الحياة التعاون بدل الصراع والجدال، والتعاونُ من شأنه التساند والاتحاد. وتضع الهدى بدل الهوى ليكون حاكماً على الخدمات التي تقدم للبشر، وشأن الهدى رفع الإنسانية إلى مراقي الكمالات، فهي إذ تحدد الهوى وتحدّ من النزعات النفسانية تُطمئن الروح وتشوقها إلى المعالي.

بمعنى أننا بانهزامنا في الحرب تبعنا التيار الثاني الذي هو تيار المظلومين وجمهور الناس. فلئن كان المظلومون في غيرنا يشكلون ثمانين بالمائة منهم ففي المسلمين هم تسعون بل خمس وتسعون بالمائة.

إن بقاء العالم الإسلامي مستغنياً عن هذا التيار الثاني، أو معارضاً له، ظل دون مستند أو مرتكز، وهدر جميع مساعيه؛ فبدلاً من الذوبان والتميع تحت استيلاء المنتصر، كان عليه أن يتصرف تصرف العاقل فيكيّف ذلك التيار إلى طراز إسلامي ويستخدمه. ذلك لأن عدو العدو صديق ما دام عدواً له، وصديق العدو عدو مادام صديقاً له.

إن هذين التيارين، أهدافهما متضادة، ومنافعهما متضادة، فلئن قال أحدهما: مت، لقال الآخر: ابعث. فنفعُ أحدهما يسلتزم ضررنا واختلافنا وتدنينا وضعفنا مثلما تقتضي منفعة الآخر قوتنا واتحادنا بالضرورة.

كانت خصومة الشرق تخنق انبعاث الإسلام وصحوته، وقد زالت وينبغي لها ذلك. أما خصومة الغرب فينبغي أن تدوم لأنها سبب مهم في تنامي الأخوّة الإسلامية ووحدتها».


Yükleniyor...