يشيب من هول أيامها الولدان، وكأن سراً من أسرار الآية الكريمة ﹛﴿يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ ش۪يبًا﴾|﹜ (المزمل:١٧) قد سرى فيها. ومع أنني كنت قريباً من الأربعين إلّا أنني وجدتُ نفسي كأنني في الثمانين من عمري..

في تلك الليالي المظلمة الطويلة الحزينة، وفي ذلك الجو الغامر بأسى الغربة، ومن واقعي المؤلم الأليم، جثم على صدري يأس ثقيل نحو حياتي وموطني، فكلما التفتُّ إلى عجزي وانفرادي انقطع رجائي وأملي. وإذ أنا في تلك الحالة جاءني المدد من القرآن الكريم.. فردد لساني: ﹛﴿حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ﴾|﹜ (آل عمران:١٧٣). وقال قلبي باكياً: «أنا غريب.. أنا وحيد.. أنا ضعيف.. أنا عاجز.. أنشد الأمان.. أطلب العفو.. أخطب العون.. في بابك يا إلهي». أما روحي التي تذكرت أحبابي القدامى في بلدي، وتخيلت موتي في هذه الغربة، فقد تمثلت بأبيات نيازي المصري(∗):

مررت بأحزان الدنيا، وأطلقت جناحي

للحرمان

طائراً في شوق، صائحاً في كل لحظة:

صديق!.. صديق..!

على أي حال.. فقد أصبح «عجزي» و«ضعفي» في تلك الليالي المحزنة الطويلة والحالكة بالفرقة والرقة والغربة وسيلتين للتقرب إلى عتبة الرحمة الإلهية، وشفيعين لدى الحضرة الإلهية، حتى إنني لا أزال مندهشاً كيف استطعت الفرار بعد أيام قليلة. وأقطع بصورة غير متوقعة مسافة لا يمكن قطعها مشياً على الأقدام إلّا في عام كامل، ولم أكن ملمّاً باللغة الروسية. فلقد تخلصت من الأسر بصورة عجيبة محيّرة، بفضل العناية الإلهية التي أدركتني بناء على عجزي وضعفي، ووصلت إسطنبول ماراً ب«وارشو» و«فينا». وهكذا نجوت من ذلك الأسر بسهولة تدعو إلى الدهشة، حيث أكملت سياحة الفرار الطويل بسهولة ويسر كبيرين، بحيث لم يكن لينجزها أشجع الأشخاص وأذكاهم وأمكرهم وممن يلمّون باللغة الروسية». (234)


Yükleniyor...