النكتة الثانية:

إن ما أنجزته هذه المدنية الحاضرة من خوارق -في ساحة العلم- نِعَمٌ رِبانية تستدعي شكرا خالصا من الإنسان على ما أُنعم عليه، وتقتضي منه كذلك استخداما ملائما لها لفائدة البشرية ومنفعتهم. بيد أننا نرى الآن خلاف ذلك؛ إذ تقود تلك الخوارقُ قسما من الناس -الذين لهم أهمية بالغة في الحياة- وتوردهم موارد الكسل والسفاهة... إذ إنها تذكّي نار الأهواء النفسانية، وتثير كوامن النزعات الشهوانية، فتُقعِد الإنسان عن الكدّ والسعي وتثنيه عن الشوق إلى العمل، وتسوقه -بعدم القناعة وعدم الاقتصاد- إلى السفاهة والإسراف والظلم وارتكاب المحرمات.

نُورد مثالا على ذلك، مثلما ذكر في رسالة «مفتاح عالَم النور»:

الراديو نعمةٌ إلهية عظيمة على البشرية، فبينما تقتضي شكرا معنويا منّا عليها وذلك باستخدامها لمصلحة البشرية كافة، نرى أربعة أخماس استعمالاتها تُصرَف في إثارة الأهواء النفسانية، وإلى أمور تافهة لا تعني الإنسان في شيء، فتجتث جذورَ شوق الإنسان إلى السعي وتُوقعه في الكسل والإخلاد إلى الراحة والاستمتاع بالاستماع إليها، حتى يدع الإنسانُ وظيفة حياته الحقيقية. وفي الوقت الذي يلزم توجيه قسم من الوسائط والوسائل الخارقة النافعة وصرفُها في تيسير مصالح البشرية الحقيقية واستخدامها في سبيل السعي والعمل لأجل خير البشرية وتوفير حاجاتها الحقيقية وتذليل مشاقها، فقد رأيتُ بنفسي، أنها لا تُصرف إلّا إلى واحد أو اثنين من عشرة في تلبية تلك الحاجات الضرورية وتُساق الثمانية الباقية من العشرة إلى اللهو والاسترسال في إثارة الهوى والاسترخاء والدعة والكسل وقضاء الوقت.

وهناك ألوف الأمثلة على هذين المثالين الجزئيين.

وحاصل الكلام: أن المدنية الغربية الحاضرة لا تلقي السمعَ كليا إلى الأديان السماوية؛ لذا أوقعت البشريةَ في فقرٍ مدقع، وضاعفت من حاجاتها ومتطلباتها، وهي تتمادى في تهييج نار الإسراف والحرص والطمع عندها بعد أن قوّضت أساس الاقتصاد والقناعة، وفتحت أمامها سُبل الظلم وارتكاب المحّرمات. زد على ذلك فقد ألقت -بذلك- الإنسانَ المحتاج المسكين في أحضان الكسل والتعطيل المدمّر، بعد أن شجعته على وسائل السفاهة. وهكذا


Yükleniyor...