واستنادا إلى ما قامت به رسائل النور من إيضاح الدستور الذي يخاطب به القرآن الكريم في ندائه العُلوي: ﹛﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾|﹜ (الأعراف:٣١)، وكذلك في قوله تعالى: ﹛﴿ وَاَنْ لَيْسَ لِلْاِنْسَانِ اِلَّا مَا سَعٰى ﴾|﹜ (النجم:٣٩)

فقد أشارت تلك الرسائل-مستضيئة بنور الآيتين المذكورتين- إلى أن سعادة حياة البشرية منوطة بالاقتصاد وعدم الإسراف، وعلى إثارة الهمم للسعي والعمل والكدّ.. وأنه بهذين الشرطين يتم التآلف والوئام بين طبقتي البشرية؛ الخواص والعوام. لذا سأتحدث عن مسألتين لطيفتين، نكتتين قصيرتين وهما الآتيتان:

أولاهما:

كان البشر في عهد البداوة تعوزهم ثلاثة أو أربعة أشياء، وكان اثنان من كل عشرة أشخاص يعجزان عن تدارك تلك الأشياء الثلاثة أو الأربعة. بينما في الوقت الحاضر تحت سطوة المدنية الغربية المستبدة، المتميزةِ بإثارة سوء الاستعمال، والدفع إلى الإسراف، وتهييج الشهوات، وإدخال الحاجات والمطالب غير الضرورية في حكم المطالب والحاجات الضرورية؛ فقد أصبح الإنسان العصري من حيث حبّ التقليد والإدمان مفتقرا إلى عشرين حاجة بدلا من أربع منها ضروريةٍ. وقد لا يستطيع إلّا شخصان من كل عشرين شخصا أن يلبّوا تلك الحاجات العشرين من مصدرٍ حلال بشكل مباح. ويبقى الآخرون الثمانية عشر محتاجين وفقراء. فهذه المدنية الحاضرة إذن تجعل الإنسان فقيرا جدا ومعوزا دائما، ولقد ساقت البشريةَ -من جهة تلك الحاجة- إلى مزيد من الكسب الحرام، وإلى ارتكاب أنواع من الظلم والغبن، وشجعت طبقةَ العوام المساكين على الصراع والتخاصم المستمر مع الخواص، وذلك بهجرها القانون الأساس الذي سنّه القرآن الكريم القاضي بوجوب الزكاة وتحريم الربا والذي يُحقق بواسطتهما توقير العامة للخاصة، ويوفّر بهما شفقة الخاصة على العامة. فبهجرها ذلك القانون الأساس أرغمت البرجوازيين على ظلم الفقراء وهضم حقوقهم، وأجبرت الفقراءَ على العصيان والتمرد في معاملتهم معهم. فدمّرت سعادة البشرية وراحتها وأمنَها واطمئنانها وجعلتها أثرا بعد عين.

Yükleniyor...