أمرَّ العذاب، وتَحمَّل أشدَّ العنت منهم، مع أنه ما كان يتحمل أذى الذباب، وذلك بما وهب له سبحانه من الصبر العظيم والتحمل الذي لا مثيل له لأذى الإهانات الشنيعة. وعلى الرغم من مزاجه العصبي ورهافة حسه وعدم التخوف في فطرته، والجرأةَ التي يحملها من إيمانه بحقيقة أن الأجل واحد لا يتغير، فإن صبره وسكوته في حالة في غاية من المسكنة والخوف، بل منحَ الفرح والانشراح لروحه بعد معاناته تلك الأنواع من التعذيب والإهانات.. أقول: إن حكمة واحدة من هذا الأمر هي الآتية كما اقتنعت بها قناعة تامة:

عدمُ جعل رسائل النور -التي تفسّر حقائق القرآن الحكيم الإيمانية- وسيلةً لأي شيء كان -عدا مرضاة الله- إذ قد أشاع أهلُ السياسة شبهة استغلال «سعيد» الدينَ لأجل السياسة، فعُذّب سعيد وسجن... لئلا يكون الدينُ وسيلة للسياسة. ولكن القدر الإلهي لطمَ سعيدا لطماتِ رأفةٍ وشفقة من تحت ستار ذلك الحُكم الظالم لأهل السياسة، لئلا يَفسد الإخلاص الذي استلهمه من رسائل النور قائلا له:

«إياك أن تجعل رسائل النور -التي هي تفسير لحقائق الإيمان- وسيلة لجرّ منافعك الشخصية، بل حتى لكمالاتك المعنوية، واحذر أن تجعلها ذريعة للخلاص من البلايا والأذى والأضرار، وذلك لكي يبقى الإخلاص الحقيقي-الذي هو القوة العظمى لرسائل النور- مصونا من الخلل».

فأنا مقتنع الآن قناعة تامة أن تلك اللطمات كانت لطمات رأفة نزلت بيّ من القدر الإلهي، بل اطمأننت تماما أنه متى ما انصرفتُ لشؤون آخرتي وحدَها، وانشغلت بعباداتي الشخصية وحدَها، تاركا خدماتي لرسائل النور، في هذا الوقت بالذات، يتسلّط عليّ أهلُ الدنيا فيذيقوني العذاب والآلام.

أُحيل إيضاح هذا الأنموذج الرابع إلى الرسالة الأخيرة (الحقيقة هي التي تتكلم) التي تخص بيان السبب في إلقاء أهل السياسة سعيدا في السجون والمعتقلات منعا لاستغلال الدين في أمور السياسة، ومعرفة سعيد بعد ذلك حكمة الأمر بأنها لطمات قدر إلهي رؤوف، وصفحه عنهم بعد ذلك، وكذا معرفته حكمة الصبر الشديد والتحمل الشديد الذي وهبه الله له.

Yükleniyor...