وهكذا، أسكتت هاتان الحقيقتان إسكاتا نهائيا تلك النفسَ الأمارة الثانية. فلله الحمد والمنة بما لا يتناهى من الحمد والشكر. إذ رضيتْ تلك النفس بالذوق الوارد من الروح والمنبعث من القلب.. وسكت الشيطان أيضا. بل حتى المرض المادي المتوطن في عروقي قد خفّ كثيرا.

حاصل الكلام: إذا متُ تزداد خدمة النور -للقرآن والإيمان- وتتوضح وتتبين بإخلاص أتمَّ، بلا حسّاد ولا اتهامات، فضلا عن النجاة من آلام التكلف الثقيلة المقيتة، والخلاصِ من أثقال العجب وأضرارِ التصنع بدلا من ذوق جزئيّ موقت لا أتحراه -في هذا الزمان- ولذةٍ ناشئة من رؤية فتوحات النور بنظر الدنيا.

ثم يا نفسي لقد تجولتِ -أنت والروح والقلب- في هذه السنة ولمرة واحدة في أرجاء الماضي، جولات حقيقية وخيالية لمشاهدة مَن تشتاقون إليه من المدن التي أمضيتُ فيها حياتي السابقة الممتعة، ولقاءِ الأحبة الذين أَنِسْتُ بهم ردحا من الزمن، والإخوانِ الذين حزنتِ على فراقهم حزنا أليما. فلم تشاهدي في أوطاني المحبوبة تلك إلّا واحدا أو اثنين من الأحبة، أما الباقون فقد ارتحلوا إلى عالم البرزخ، فلقد تبدلتْ لوحاتُ تلك الحياة التي كانت تطفح باللذة والمتعة إلى لوحات أليمة تقطر الحزن والأسى، فلا تُراد تلك البقاعُ الخالية من الأحباب ولا تُطلب إذن!

لذا فقبل أن تطردنا هذه الحياةُ وهذه الدنيا قائلةً لنا: اخرجوا عني. نقول بعزة كاملة: الوداع، وفي أمانة الله وحفظه. نعم، هكذا ينبغي أن ندَع هذه الأذواق الفانية محتفظين بكرامتنا وعزتنا.

ألف ألف سلام ودعاء لجميع إخواننا، من أخيكم المريض والمسرور سرورا خالصا.

§سعيد النورسي>

∗ ∗ ∗



Yükleniyor...