والآن [أي بعد حوالي خمسين سنة] تَوَضَّحَ الأمرُ فأدركت أن ذلك النجاح الباهر وذلك الإعلان وإظهار الإعجاب والفضيلة التي تفوق حدي بكثير، إنما كان لتهيئة الوسط الملائم لقبول رسائل النور لدى إسطنبول وعلمائها ومعرفةِ أهميتها.

كنت أرفض قبول أموال الناس وهداياهم منذ نعومة أظفاري. فما كنت أتنازل لإظهار حاجتي للآخرين رغم أنني كنت فقير الحال وفي حاجة إلى المال، وما كنت زاهدا ولا صوفيا ولا صاحب رياضة روحية، فضلا عن أنني ما كنت من ذوي الحسب والنسب والشهرة.

فإزاء هذه الحالة كنت أحار من أمري كما كان يحار من يعرفني من الأصدقاء. ولقد فهمت من قبل بضع سنين حكمتها، أنها كانت لأجل عدم الرضوخ للطمع والمال، ولأجل الحيلولة دون مجيء اعتراض على رسائل النور في مجاهداتها، فقد أنعم عليّ الباري عز وجل تلك الحالة الروحية.. وإلا كان أعدائي الرهيبون يُنزلون بي ضربتَهم القاضية من تلك الناحية.

ومثلا: على الرغم من أن سعيدا القديم قد توغل كثيرا في الأمور السياسية، وأن سعيدا الجديد بحاجة إلى من يسنده وينحاز إليه كثيرا، لم تشغله أعاصير السياسة أصلا وقطعا ولم تغلبه -بتحريك الفضول لديه- للاهتمام حتى بمعرفة هذا الطوفان البشري الجارف الذي أشغل البشرية قاطبة طوال خمس سنوات وأكثر...

فقد كنت أحار من هذه الحالة، كما أن الذين يعرفونني يحارون، حتى كنت أقول لنفسي: هل أنا الذي جننت بحيث لا أنظر ولا أهتم بهذه الحالة التي هزّت الدنيا أجمع، أم الناس أصبحوا مجانين؟. كنت أقول هذا وأظل محتارا، ولكن قد تحقق الآن -بإخطار معنوي وبالحس المسبَق المذكور وبتغلب رسائل النور وإطلاق حريتها- أن تلك الحالة الروحية العجيبة، قد مُنِحَت لأجل إثبات أن حقيقة الإخلاص التي تتحلى بها رسائل النور لا يمكن أن تكون تابعة لأي شيء سوى مرضاة الله سبحانه وتعالى ولا ركيزةَ لها سوى القرآن الكريم.

§سعيد النورسي>

∗ ∗ ∗



Yükleniyor...