الرشحة التاسعة:

اعلم! إنْ كنت عارفاً بسجية البشر، أنَّه لا يتيسّر لعاقل أنْ يدَّعي -في دعوىً فيها مناظرة- كذباً يخجل بظهوره، وأَنْ يقوله بلا حرج وبلا تردد وبلا اضطراب يشير إلى حيلته، وبلا تصنع وتهيج يُومِيَانِ إلى كذبه، أَمامَ أَنظار خصومه النقّادة، ولو كان شخصاً صغيراً، ولو في وظيفة صغيرة، ولو بمكانة حقيرة، ولو في جماعة صغيرة، ولو في مسأَلة حقيرة. فكيف يمكن تداخل الحيلة ودخول الخلاف في مدَّعيات مثل هذا الشخص الذي هو موظف عظيم، في وظيفة عظيمة، بحيثية عظيمة، مع أَنّه يحتاج لحماية عظيمة، وفي جماعة عظيمة، مقابل خصومة عظيمة، وفي مسأَلة عظيمة، وفي دعوىً عظيمة؟

وها هو يقول ما يقول بلا مبالاة بمعترض، وبلا تردّد وبلا تحرج وبلا تخوف وبلا اضطراب وبصفوة صميمية، وبجدّية خالصة، وبطرز يثير أَعصاب خصومه، بتزييف عقولهم وتحقير نفوسهم وكسر عزتهم، بأُسلوب شديد علويّ. فهل يمكن تداخل الحيلة في مثل هذه الدعوى من مثل هذا الشخص، في مثل هذه الحالة المذكورة؟ كلا! ﹛﴿اِنْ هُوَ اِلَّا وَحْيٌ يُوحٰى﴾|﹜ (النجم: ٤).

نعم، إنَّ الحق أَغْنى من أَنْ يُدلِّسَ، ونظرُ الحقيقة أَعلى من أَنْ يُدلَّسَ عليه. نعم! إنَّ مسلكه الحق مستغنٍ عن التدليس، ونظرَه النفّاذ منزّهٌ من أن يلتبس عليه الخيالُ بالحقيقة..

الرشحة العاشرة:

انظرْ واستمعْ إلى ما يقول! ها هو يبحث عن حقائق مدهشة عظيمة، ويبحث عن مسائل جاذبة للقلوب، جالبة للعقول إلى الدقة والنظر؛ إذ من المعلوم أَنَّ شوق كشف حقائق الأَشياء قد ساق الكثيرين من أَهل حب الاستطلاع واللهفة والاهتمام إلى فداء الأَرواح. أَلَا ترى أَنَّه لو قيل لك: إنْ فديتَ نصفَ عمرك، أَوْ نصفَ مالك؛ لنزل من القمر أَوْ المشتري شخصٌ يُخبرك بغرائب أَحوالهما، ويخبرك بحقيقة مستقبل أَيامك؟ أَظنك ترضى بالفداء. فيا للعجب؟ ترضى لدفع ما تتلهف إليه بنصف العمر والمال، ولا تهتم بما يقول هذا النبي الكريم ﷺ ويصدِّقه إجماعُ أَهل الشهود وتواتر أَهل الاختصاص من الأَنبياء والصديقين والأَولياء والمحققين! بينما هو يبحث عن شؤون سلطانٍ، ليس القمر في مملكته إلَّا كذباب يطير حول فراش، وهذا يحوم حول سراج من بين أُلوفٍ من القناديل التي أَسرجها في منزل من بين أُلوفِ منازله

Yükleniyor...