فإن كنت راشداً، عوّد نفسك على القناعة وحاول بلوغ الرضى. وإن لم تطق ذلك فقل: يا صبور! وتجمّل بالصبر. وأرض بحقك ولا تشكُ. واعلم ممن وإلى مَن تشكو! إلزَم الصمت. وإذا أردت الشكوى لا محالة فاشكُ نفسَك إلى الله، فإن القصور منها.

الرمز الثاني

لقد ذكرنا في ختام «المسألة الأخيرة للمكتوب الثامن عشر» أنه:

إنَّ حكمةً من حِكم تبديل الخالق الجليل للموجودات دوماً وتجديدِه لها باستمرار تبديلاً وتجديداً محيّراً مذهلاً بفعالية ربوبيته الجليلة هي أن الفعالية والحركة في المخلوقات نابعةٌ من شهية، من اشتياق، من لذة، من محبة، حتى يصح القول:

إن في كل فعالية نوعاً من اللذة، بل إن كل فعالية هي نوعٌ من اللذة، واللذة كذلك متوجهة إلى كمال بل هي نوعٌ من الكمال.

ولما كانت الفعالية تشير إلى كمال، إلى لذة، إلى جمال، وإن الواجب الوجود سبحانه الذي هو الكمال المطلق والكامل ذو الجلال، جامعٌ في ذاته وصفاته وأفعاله لجميع أنواع الكمالات، فلا شك أن لذلك الواجب الوجود سبحانه شفقةً مقدسة لا حدّ لها ومحبةً منزّهة لا نهاية لها تليق بوجوب وجوده وقدسيته وتوافق تعاليه الذاتي وغناه المطلق وتناسب كماله المطلق وتنزُّهه الذاتي ولا شك أن له شوقاً مقدّساً لا حدّ له، نابعاً من تلك الشفقة المقدسة، ومن تلك المحبة المنزَّهة، وأن له سروراً مقدساً لا حدّ له نابعاً من ذلك الشوق المقدس، وأن له لذةً مقدسة لا حدّ لها -إن جاز التعبير- ناشئةٌ من ذلك السرور المقدس. ولاشك أن له مع تلك اللذة المقدسة رضىً مقدساً لا حدّ له وافتخاراً مقدّساً لا نهاية له -إن جاز التعبير- ناشئَين من رضىً وامتنان مخلوقاته من انطلاق استعداداتها من القوة إلى الفعل، حينما تنطلق وتتكامل بفعالية قدرته ضمن رحمته الواسعة.. فذلك الرضى المقدس المطلق والافتخار المطلق يقتضيان هذه الفعالية المطلقة في صورتها المطلقة. وتلك الفعالية أيضاً تقتضي تبديلاً وتغييراً وتحويلاً وتخريباً لا حدّ لهما وذلك التغيير والتبديل غير المحدودَين يقتضيان الموت والعدم والزوال والفراق.


Yükleniyor...