ثم إن رفضي للمرتّب الحكومي -إلاّ ما عينَته الدولةُ لي لسنتين حينما كنت في دار الحكمة الإسلامية وبعد إلحاح أصدقائي وإصرارهم اضطررت إلى قبوله- وإن عدم قبولي لمنّة الآخرين في دفع ضرورات المعيشة الحياتية.. كل ذلك يبين دستور حياتي. فالناس في مدينتي وكل من يعرفني في المدن الأخرى يعرفون هذا مني جيداً. ولقد حاول أصدقاء كثيرون بمحاولات شتى أن أقبل هداياهم في غضون هذه السنوات الخمس التي مرت بالنفي، إلا أنني رفضت.

فإذا قيل: فكيف إذن تعيش؟

أقول: أعيش بالبركة والإكرام الإلهي. فإنَّ نفسي الأمارة مع أنها تستحق كلَّ إهانة وتحقير، إلّا أنني -في الإرزاق- أحظى بالبركة التي هي إكرام إلهي يُمنح كرامةً من كرامات خدمة القرآن.

سأورد نماذج منها، وذلك قياماً بأداء الشكر المعنوي تجاه تلك النعم التي أكرمني الله بها وعملا بالآية الكريمة: ﹛﴿وَاَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾|﹜ (الضحى: ١١) ولكني رغم هذا أخشى أن يداخلَ هذا الشكرَ المعنوي شيءٌ من الرياء والغرور فتمحَق تلك البركة الربانية الطيبة، إذ إن إظهار البركة المخفية بافتخارٍ مدعاةٌ لانقطاعها. ولكن ما حيلتي فإني اضطررتُ إلى ذكر تلك البركة اضطراراً.

فالأول: لقد كفاني في هذه الشهور الستة الماضية ستةٌ وثلاثون رغيفاً قد خُبز من كيلة (3) من الحنطة، ولا زال الخبز باقياً، ولا أعرف متى ينفد. (4)

ثانيها: في هذا الشهر المبارك شهر رمضان لم يأتني طعامٌ إلّا من بيتين اثنين، وقد أمرضاني كلاهما. ففهمتُ من هذا أنه ممنوع عليّ طعامُ الآخرين!. ولقد كفتني أوقية واحدة (5) من الرز وثلاثة أرغفة من الخبز بقية أيام شهر رمضان. فالصديق الصادق «عبد الله جاويش»(∗) صاحب البيت المبارك الذي يهيئ لي الطعام يشهد بهذا ويخبر به، بل إن الرز قد استمر خمسة عشر يوماً آخر بعد شهر رمضان.

Yükleniyor...