وهكذا فالقرآن الكريم، متاعٌ ثمين وبضاعةٌ سامية ومالٌ رفيع لله والبُعد بين الطرفين، بعدٌ مطلق لا يحدّه حد، إذ هو البُعد ما بين كلام رب العالمين وكلام بشر. ولهذا لا يمكن وضعُ المال وسط الطرفين، إذ لا وسطَ بينهما إطلاقاً. لأنهما كالوجود والعدم، فلا وسط بينهما. لذا فإن صاحب اليد للقرآن هو الطرف الإلهي. ولهذا ينبغي أن يقبل الأمر هكذا وسَوق الأدلة في ضوئها أي أنه بيده سبحانه. إلّا إذا استطاع الطرفُ الآخر دحضَ جميع البراهين المشيرة إلى أنه كلام الله، وتفنيدها الواحد تلو الآخر، عندئذٍ يمكنه أن يمدّ يدَه إليه، وإلّا فلا.

هيهات! من ذا يستطيع أن يزحزح تلك الدرّة الغالية المثبتة بالعرش الأعظم بآلاف من مثبتات البراهين الدامغة، وأنّى لأحدٍ الجرأة على هدم دلائل الأعمدة القائمة، ليسقط تلك الدرّة النفيسة من العرش السامي.

فيا أيها الشيطان! إن أهل الحق والإنصاف يحاكمون الأمور محاكمة عقلية سليمة على هذه الصورة رغم أنفك. بل يزدادون إيماناً بالقرآن بأصغر دليل.

أما الطريق الذي تدل عليه أنت وتلاميذك، أي لو افترض القرآن كلام بشر، ولو لمرة واحدة، أي لو أسقطت تلك الدرة العظيمة الثابتة بالعرش، إلى الأرض، فيلزم وجود برهان قوي وعظيم يعلو جميع البراهين ويتسع لجميع الدلائل، كي يقوى على الارتفاع بها من الأرض ويثبتها في العرش المعنوي، وبذلك وحده ينجو من ظلمات الكفر وأوهامه ويبلغ نور الإيمان ويدركه، وهذا أمر عسير قلّما يوفق المرءُ إليه في هذا الزمان، ومن هنا يفقد الكثيرون في هذا الزمان إيمانَهم بدسيستك الملفعة باسم المحاكمة العقلية الحيادية.

انبرى الشيطان قائلاً: إنَّ سياق الكلام في القرآن شبيهٌ بكلام البشر، فهو يجري محاوراته في أسلوب محاورة البشر، فإذن هو كلامُ بشر! إذ لو كان كلامُ الله، لكان خارقاً للعادة في كل جهاته، بما يليق بالله، ولا يشبه كلامَ البشر، مثلما لا تشبه صنعةُ الله صنعةَ بشر!

فقلت جواباً: إنَّ رسولنا الأعظم ﷺ ظَلَّ في طور بشريته في أفعاله وأحواله وأطواره كلِّها -فيما سوى معجزاته وخصائصه- فانقادَ انقياد طاعةٍ لسنن الله وأوامِره التكوينية، كأي إنسان آخر. فكان يقاسي البردَ ويعاني الألم.. وهكذا لم يُوهب له خوارقُ غير عادية في أحواله وأطواره كلِّها، وذلك ليكون قدوةً للامة بأفعاله، ومرشداً لهم بأطواره، وهادياً للناس كافة


Yükleniyor...