كان عليه أن يقدّم الشكر الذي يستوجبه، قام بخلاف ما يجب عليه، وأخذ بانتقاد صاحب الديوان، فاستثقله صاحبُ الديوان، بينما رحّب بالشخص الأول الذي دخل الديوان وهو يشعّ تواضعاً يلتمس الجلوس في أدنى مقعد متوفر، إذ سرَّته هذه القناعة البادية منه والتي بعثت في نفسه الانشراحَ والاستحسان وأخذ يُرقّيه إلى أعلى مقام وأرقاه. وهو بدوره يستزيد من شكره ورضاه وامتنانه كلما صعدت به المراتب.

وهكذا الدنيا، ديوانُ ضيافة الرحمن. ووجه الأرض سُفرة الرحمة المبسوطة ومائدة الرحمن المنصوبة. ودرجات الأرزاق ومراتب النعمة بمثابة المقاعد المتباينة.

إنَّ سوء تأثير الحرص ووخامة عاقبته يمكن أن يشعر به كل واحد، حتى في أصغر الأمور وأدقها جزئية.

فمثلاً: يمكن أن يشعر كل شخص استياءً واستثقالاً في قلبه تجاه متسوّل يلحّ عليه بحرص شديد، حتى إنه يردَّه، بينما يشعر إشفاقاً وعطفاً تجاه متسول آخر وقف صامتاً قنوعاً، فيتصدق عليه ما وسعه.

ومثلاً: إذا أردت أن تغفو في ليلة أصبتَ فيها بالأرق.. فإنك تهجع رويداً رويداً إن أهملتَه ولم تبال به. ولكن إن حرصت على النوم وقلقت عليه وأنت تتمتم: تُرى متى أنام؟ أين النوم مني؟.. لتبدَّد النومُ ولفقدتَه كلياً.

ومثلا: تنتظر أحدهم بفارغ الصبر، وأنت حريص على لقائه لأمر مهم، فتشعر بالقلق قائلاً: لِمَ لم يأت.. ما بالُه تأخر؟ وفي النهاية يزيح الحرصُ الصبرَ من عندك، ويضطرك إلى مغادرة مكان الانتظار يائساً. وإذا بالشخص المنتظر يحضر بعد هنيهة، ولكن النتيجة المرجوّة قد ضاعت وتلاشت.

إن السر الكامن في أمثال هذه الحوادث وحكمتَها هو: مثلما يترتب وجودُ الخبز على أعمال تتم في المزرعة، والبيدر، والطاحونة، والفرن، فإن ترتب الأشياء كذلك يقترن بحكمة التأنّي والتدرج، ولكن الحريص بسبب حرصه لا يتأنّى في حركاته ولا يراعي الدرجات والمراتب المعنوية الموجودة في ترتب الأشياء. فإما أنه يقفز ويطفر فيسقط، أو يدع إحدى المراتب ناقصةً فلا يرتقي لغايته المقصودة.

Yükleniyor...