تحصل الحيوانات المفترسة التي تنقضّ على فرائسها بحرص شديد إلّا بعد لأيٍ كبير وتحرٍ عظيم.

فهاتان الحالتان تبينان بوضوح: أن الحرص سبب الحرمان، أما التوكل والقناعة فهما وسيلتا الرحمة والإحسان.

ونرى الحال نفسه في عالم الإنسان إذ اليهود الذين هم أحرصُ الناس على حياة، ويستحبّون الحياةَ الدنيا على الآخرة، بل يعشقونها حب العاشق الولهان حتى سبقوا الأمم في هذا المجال، قد ضُربت عليهم الذلة والمهانة، وأُلحقت بهم حملات القتل بيد الأمم الأخرى.. كل ذلك مقابل حصولهم بعد عناء طويل على ثروة ربَوية محرَّمة خبيثة، لا ينفقون منها إلّا النزر اليسير، وكأن وظيفتهم كنزها وادخارَها فحسب.. فيبين لنا هذا الحال: إن الحرص معدن الذلة والخسة والخسارة في عالم الإنسانية.

وهناك وقائع كثيرة، وحوادث لا تدخل في الحصر بأن الحريص معرَّضٌ دائماً للوقوع في حومة الخسران، حتى جرى «الحريص خائب خاسر» (8) مجرى الأمثال الشائعة. واتخذه الجميع حقيقة عامة في نظرهم.

فما دام الأمر هكذا، إن كنت تحب المال حباً جماً فاطلبه بالقناعة دون الحرص حتى يأتيك وافراً.

ويمكن أن نشبّه القانعين من الناس والحريصين منهم بشخصين يدخلان مضيفاً كبيراً أعدَّه شخص عظيم ذو شأن.. يتمنى أحدُهما من أعماقه قائلاً: لو أن صاحب الديوان يأويني مجرد إيواء، وأنجو من شدة البرد الذي في الخارج لكفاني، وحسبي ذلك. ولو سمح لي بأي مقعد متيسّر في أدنى موقع فهو فضلٌ منه وكرم. أما الآخر فيتصرف كأنَّ له حقاً على الآخرين، وكأنهم مضطرون أن يقوموا له بالاحترام والتوقير، لذا يقول في أعماقه بغرور: على صاحب الديوان أن يوفّر لي أرفعَ مقعد وأحسنه. وهكذا يدخل الديوانَ وهو يحمل هذا الحرص ويرمق المواقع الرفيعة في المجلس، إلّا أن صاحب الديوان يرجّعه ويردّه إلى أدنى موقع في المجلس، وهو بدوره يمتعض ويستاء ويمتلئ صدرُه غيظاً على صاحب الديوان. ففي الوقت الذي


Yükleniyor...