واعلم أن كلَّ الألم في الضلالة، وكلَّ اللذة في الإيمان.

فإن شئت تأمل في حال شخصٍ: بينما أخرجَتْه يدُ القدرة من ظلمات العدم وألقَتْهُ في الدنيا -تلك الصحراءِ الهائلة- إذ يفتح عَينَيه مستعطفاً، فيرى البليّاتِ والعلل كالأعداء تتهاجمُ عليه، فينظر مسترحِماً إلى العناصر والطبائع فيراها غليظةَ القلب بلا رحمة قد كَشَرت عليه الأسنانَ؛ فيرفع رأسَه -مستمداً- إلى الأجرام العلوية فيراها مهيبةً ومدهشة تهدّده كأنها مَرامِي (33)نارية من أفواه هائلة تمرّ حواليه؛ فيتحيّر ويخفضُ رأسَه متستراً ويطالع نفسَه؛ فيسمع أُلوفَ صيحاتِ حاجاته وأنين فاقاته، فيتوحّش، فينظر إلى وجدانه ملتجئا؛ فيرى فيه أُلوفاً من آمال متهيجةٍ ممتدةٍ لا تُشبعها الدنيا.

فبالله عليك، كيف حالُ هذا الشخص إنْ لم يعتقد بالمبدأ والمعاد والصانع والحشر؟ أتظنّ جهنمَ أشدَّ عليه من حاله وأحرقَ لروحه؟ فإنّ له حالةً تركّبت من الخوف والهيبة والعَجز والرعشة والقلق والوحشة واليتم واليأس؛ لأنه إذا راجع قدرتَه يراها عاجزةً ضعيفة؛ وإذا توجّه إلى تسكين حاجاته يراها لا تسكت؛ واذا صاح واستغاث لا يُسْمَع ولا يُغاث. فيَظن كلَّ شيء عدواً، ويتخيل كلَّ شيء غريباً فلا يستأنس بشيء، ولا ينظر إلى دوران الأجرام إلّا بنظر الخوف والدهشة والتوحش المزعجة للوجدان.

ثم تأمل في حال ذلك الشخص إذا كان على الصراط المستقيم واستضاء وجدانُهُ وروحُه بنور الإيمان؛ كيف ترى أنه إذا وَضع قدمَه في الدنيا وفتح عينَيه فرأى تَهاجُم العاديات الخارجية يرى إذن «نقطة استناد» يستند إليها في مقابلة تلك العاديات، وهي معرفةُ الصانع فيستريح. ثم إذا فتّش عن استعداداته وآمالِه الممتدة إلى الأبد، يرى «نقطة استمداد» يستمد منها آمالُه وتتشرب منها ماءَ الحياة وهي معرفةُ السعادة الأبدية. وإذ يرفع رأسه وينظر في الكائنات يستأنس بكلِّ شيء، وتجتني عيناه من كلِّ زهرة أُنسيةً وتحبّباً، ويرى في حركات الأجرام حكمةَ خالقِها، ويتنزّه بسيرها، وينظر نظَرَ العبرة والتفكر، كأنّ الشمس تناديه: «أيها الأخ! لا تتوحش مني، فمرحباً بقدومك! نحن كلانا خادمان لذاتٍ واحد، مطيعان لأمره». والقمرَ والنجومَ والبحرَ وأخواتها يناجيه كلٌّ منها بلسانه الخاص وترمز إليه: ب«أهلاً وسهلاً،


Yükleniyor...