إذا عرفت هذه النكت: فاعلم أن محمّداً العربيّ عليه السلام مع أميّته قصّ علينا بلسان القرآن قصَصَ الأولين والأنبياء قصةَ مَنْ حضرَ وشاهَد، وبيّن أحوالَهم وشرحَ أسرارَهم على رؤوس العالم في دعوى عظيمة تجلب إليها دقةَ الأذكياء. وقد قصّ بلا مبالاة، وأخذ العُقَد الحياتية فيها وأساساتها مقَدَّمة لمدّعاه، مصدِّقاً فيما اتفقت عليه الكتبُ السالفة، ومصحِّحاً فيما اختلفت فيه. كأنه بالروح الجوّالِ المَعكسِ للوحي الإلهي طيَّ الزمانَ والمكانَ، فتداخل في أعماق الماضي فبيّن كأنه مشاهِد. فثبت أن حاله هذه دليل نبّوته وإحدى معجزاته. فمجموعُ دلائل نبوّة الأنبياء في حُكمٍ دليلٍ معنويٍ له، وجميعُ معجزات الأنبياء في حُكم معجزة معنوية له.

المسألة الخامسة

في بيان صحيفة عصر السعادة لا سيما مسألة جزيرة العرب. فها هنا أيضاً أربع نكت:

إحداها: أنك إذا تأملتَ في العالم ترى أنه قد يتعسر ويستشكل رفعُ عادةٍ ولو حقيرةً في قوم ولو قليلين. أو خصلةٍ ولو ضعيفةً.. في طائفةٍ ولو ذليلين.. على مَلِك ولو عظيماً.. بهمّة ولو شديدة. في زمان مديد بزحمة كثيرة. (155)فكيف أنت بمَن لم يكن حاكماً، تشبثَ في زمان قليل بهمّة جزئية -بالنسبة إلى المفعول- وَقَلَعَ عاداتٍ وَرَفَعَ أخلاقاً قد استقرت بتمام الرسوخ واستُؤنس بها نهاية استيناس واستمرت غايةَ استمرار، فغرسَ فجأةً بَدَلَها عاداتٍ وأخلاقاً تكمّلت دفعةً عن قلوب قوم في غاية الكثرة ولمألوفاتهم في نهاية التعصب. أفلا تراه خارقاً للعادات؟..

النكتة الثانية: هي أن الدولة شخصٌ معنويّ. تشكُّلُها تدريجيّ كنمو الطفل، وغلَبتُها للدولة العتيقة -التي صارت أحكامُها كالطبيعة الثانية لملّتها- متمهلةٌ. أفلا يكون حينئذ من الخارق لعادةِ تشكُّلِ الدول تشكيلُ محمّد عليه السلام لحكومةٍ عظيمةٍ دفعةً، مهيَّئةً لنهاية الترقي، متضمنةً للأساسات العالية الأبدية مع غلبتها للدول العظيمة دفعةً مع إبقاء حاكميته لا على الظاهر فقط، بل ظاهراً وباطناً ومادةً ومعنىً.

النكتة الثالثة: هي أنه يمكن بالقهر والجبر تحكّمٌ ظاهريّ، وتسلّط سطحيّ. لكن الغلبةَ


Yükleniyor...