حقيقية، ووجودَ مراتبَ نسبيةٍ، وحِكم كثيرةٍ لا تدركها العقولُ؛ جعل الصانعُ جلّ جلالُه الطبائعَ مُختلطةً، والمضارّ ممزوجةً بالمنافع، والشرورَ متداخلةً بين الخير، والمقابحَ مجتمعة مع المحاسن، فخمّرتْ يدُ القدرة الأضدادَ تخميراً، فصيّرت الكائناتِ تابعةً لقانون التبدل والتغيّر والتحوّل والتكامل. فلمّا انسدّ ميدانُ الامتحان وانقضى وقتُ الابتلاء وجاء وقتُ الحصاد؛ أراد الصانعُ جلّ جلالُه بعنايته تصفيةَ الأضداد المختلطةِ للتأبيد، وتمييزَ أسبابِ التغيّر، وتفريقَ موادّ الاختلاف؛ فتحصل جهنمُ بجسم مُحكَم مَظهراً لخطابِ: ﹛﴿ وَامْتَازُوا ﴾|﹜ وتجلى الجنةُ بجسم مؤبّدٍ مشيّد مع أساساتها.. بسرّ أن المناسبةَ شرطُ الانتظام، والنظامُ سببُ الدوام. ثم إنه تعالى أعطى بقدرته الكاملة لساكني هاتين الدارَين الأبديتين وجوداً مشيّداً لا سبيل للانحلال والتغيّر إليه، على أن التغيّر هنا المنجَر إلى الانقراض إنما هو بتفاوت النسبة بين التركيب وما يتحلل، وأما هناك فلِاستقرار النسبة يجوز التغيّرُ بلا انجرار إلى الانحلال.

وأما النقطة الثالثة والرابعة: أعني إمكان التعمير والحشر ووقوعه:

فاعلم أن التوحيد والنبّوة لمّا لم يصح إثباتهما بالدليل النقليّ فقط للزوم الدور (175)أشار القرآنُ إلى الدلائل العقلية عليهما. أما الحشر فيجوز إثباته بالعقل والنقل:

أما العقليّ فراجعْ إلى ما بيّنا بقدر الطاقة في تفسيرِ ﹛﴿ وَبِالْاٰخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾|﹜ حاصلُه: أن النظام والرحمة والنعمة إنما تكون نظاماً ورحمةً ونعمة إن جاء الحشرُ.. وأما النقليّ فقول كل الإنسان مع حُكم القرآن المعجِز بوقوعه. وأما النقليّ مع الرمز للعقليّ فراجع هذا الموضع من تفسير فخر الدين الرازي (176)فإنه عدّد الآيات المثبتة للحشر.

والحاصل: أنه ما من متأمل في نظائرِ وأشباهِ وأمثالِ الحشر في كثيرٍ من الأنواع إلّا ويتحدّس من تفاريق الأمارات إلى وجود الحشر الجسماني والسعادة الأبدية.

أما نظمُ جملها بعض مع بعض، فاعلم أن السلك الذي نُظّم فيه جواهرُ جُمل هذه الآية وسلسلتُها هي: أن السعادة الأبدية قسمان:


Yükleniyor...