من كتاب العالم، فترى السحاب متوضعاً على الجبل ويصير الجبل كأنه مرسىً لسفن السحاب تُرسى عليه، أو مجلس تتشاور عليه، أو وكر تطير اليه؛ استحق بحكم المجاورة في نظر البلاغة أن يتبادلا ويستعيرا لوازمهما فيعبّر عن السحاب بالجبل مع تناسي التشبيه. فإذا قد عرفت ما سمعت من المناسبات ف ﹛﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَٓاءِ ﴾|﹜ أيْ من جهة السماء. ﹛﴿ مِنْ جِبَالٍ ﴾|﹜ أي من سحاب كالجبال. ﹛﴿ مِنْ بَرَدٍ ﴾|﹜ أي في لونه ورطوبته وبرودته.

فيا هذا! ما أجبرك مع وجود هذا التأويل الذي تقبله البلاغة على اعتقاد نزول المطر بدقيقتين من مسافة خمس مائة سنة المخالف لحكمة الله الذي أتقن كل شيء صنعاً.

أما هيئات جملةِ ﹛﴿ ف۪يهِ ظُلُمَاتٌ ﴾|﹜ المسوقة للتهويل؛

فتقديم ﹛﴿ ف۪يهِ ﴾|﹜ إشارة إلى أن خيال المصاب المدهوش والسامعِ المستحضِر خيالُه لتلك الحال يتوهم أن ظلمات الليالي الكثيرة أفرغت بتمامها في تلك الليلة.

وأما الظرفية مع أن الصيِّب مظروف فرمز إلى أن المتدهش بتلك المصيبة يظن فضاء العالم حوضاً قد ملئ من المطر، فما الليل إلا مظروف مفتت بين أجزائه.

وأما جمع «الظلمات» فإيماء إلى تنوعها من ظلمة سواد السحاب وكثافته وانطباقه، ومن تقارب دفعات المطر وتكاثف قَطْره، ومن تضاعف ظلمة الليل.

وأما تنكير ﹛﴿ ظُلُمَاتٌ ﴾|﹜ فللاستنكار ولجهل المخاطب، فهو تأكيدُ ﹛﴿ ظُلُمَاتٌ ﴾|﹜ .

وأما جملةُ ﹛﴿ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ﴾|﹜ فاعلم أن المقصد تصوير حيرتهم ودهشتهم، وأن المصاب المتحير يجمع تمام دقته ونظره إلى أدنى حادث. فلإمعان النظر يتفطنون لما في الرعد والبرق من الانقلابات العجيبة والتحول الغريب. إذ بينما يرى المصابون ظلمة استولت على الكائنات وابتلعت الموجودات -نظير العدم- فتنقلب حيرتُهم بالغمِّ اليتميّ والسكوت الميتيّ؛ إذ يرون أظهر دلائل الوجود، وهو تكلُّم العلويات، ثم ظهورها بكشف الحجاب، فينقلب نظرهم إلى نظر المدهوش المتحير الخائف؛ إذ كما أنهم إذا رأوا ظلمات غير محصورة في فضاء غير متناهٍ، لا ضعفَ فيه بجانبٍ يُبقي لهم أملاً، ينظرون نظر اليأس؛ كذلك إذا فاجأهم بغتةً انعدامُ الظلمات بأن أفرغت من الفضاء، ومُلئ بدلها نوراً، ينقلب يأسهُم المطلق إلى رجاء.


Yükleniyor...