لكان في العدم. فباتفاق العقلاء لابد لها من علّة مرجِّحة.. ومن المحال أن تكون العلةُ أسباباً طبيعية؛ إذ ما فيها من النظام الدقيق يقتضي نهايةَ علمٍ وكمالَ شعورٍ لا يمكن تصورُهما في تلك الأسباب التي يخادعون أنفسهم بها. مع أنها أسبابٌ بسيطة قليلة جامدة لم يتعين مجاريها، ولم يتحدد محاركُها، مع ترددها بين ألوف من الإمكانات التي لا أولَويةَ لبعضها. فكيف تجري في مجرى معيّن، وتتحرك على مَحْرَك محدود، وكيف يترجَّح بعضُ وجوه الإمكانات حتى يتولد هذه الماكينةُ العجيبة المنتظمة التي حيَّرت العقولُ في دقائق حِكَمها، بل إنما تقنع نفسُك وتطمئن بتولّدها منها إن أَعطيت لكلِّ ذرّة شعورَ «أفلاطون»(∗) وحِكمةَ «جالينوس»(∗) واعتقدتَ بين تلك الذرات مخابرةً عمومية. وما هذه إلّا سفسطة يَخجل منها السوفسطائيُّ. مع أن أُس الأسباب المادية وجودُ القوة الجاذبة والقوة الدافعة معاً، في جزءٍ لا يتجزأ والجوهر الفرد، وإن هذا كاجتماع الضدين.
نعم، قانونُ الجاذبة والدافعة وأمثالهما أسماءٌ لقوانينِ عادات الله تعالى وشريعته الفطرية المسماة بالطبيعة. فهذه القوانين مقبولةٌ بشرط أن لا تنتقل من القاعدية إلى الطبيعية، وأن لا تخرج من الذهنية إلى الخارجية، وأن لا تتحول من الاعتبارية إلى الحقيقية، وأن لا تترقى من الآلَتِيَّة إلى المؤثِّرية.
فإذ تفهّمت ما في هذا المثال ورأيت عظمتَه مع صِغَره، ووسعتَه مع ضيقِه؛ فارفع رأسك وانظر في الكائنات ترَ وضوحَ «دليل العناية» وظهورَه بمقدار درجة وُسعة الكائنات. فكلُّ الآيات القرآنية العادّة لنِعَم الأشياء والمذكِّرة لفوائدها مظاهرُ لهذا الدليل، فكلما أمرَ القرآنُ بالتفكر فإنما أشار مخاطِباً للعموم إلى طريق هذا ﹛﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرٰى مِنْ فُطُورٍ ﴾|﹜ (الملك:٣). ثم إنَّ الذي يومئ إلى هذا الدليل من هذه الآية قوله تعالى: ﹛﴿ اَلَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَٓاءَ بِنَٓاءًۖ وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَاَخْرَجَ بِه۪ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾|﹜ .
وأما «الدليل الاختراعيّ» المشار إليه بقوله تعالى: ﹛﴿ الَّذ۪ي خَلَقَكُمْ وَالَّذ۪ينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾|﹜ فهو: أن الله تعالى أعطى لكل فردٍ ولكل نوع وجوداً خاصاً هو منشأُ آثاره المخصوصة، ومنبعُ كمالاته اللائقة؛ إذ لا نوعَ يتسلسل إلى الأزل لإِمكانه، ولبطلان التسلسل، ولأن هذا التغيّر في العالَم يثبت حدوث بعضٍ بالمشاهدة، وبعضٍ آخر بالضرورة العقلية. ثم إنه قد ثبت بعلم
نعم، قانونُ الجاذبة والدافعة وأمثالهما أسماءٌ لقوانينِ عادات الله تعالى وشريعته الفطرية المسماة بالطبيعة. فهذه القوانين مقبولةٌ بشرط أن لا تنتقل من القاعدية إلى الطبيعية، وأن لا تخرج من الذهنية إلى الخارجية، وأن لا تتحول من الاعتبارية إلى الحقيقية، وأن لا تترقى من الآلَتِيَّة إلى المؤثِّرية.
فإذ تفهّمت ما في هذا المثال ورأيت عظمتَه مع صِغَره، ووسعتَه مع ضيقِه؛ فارفع رأسك وانظر في الكائنات ترَ وضوحَ «دليل العناية» وظهورَه بمقدار درجة وُسعة الكائنات. فكلُّ الآيات القرآنية العادّة لنِعَم الأشياء والمذكِّرة لفوائدها مظاهرُ لهذا الدليل، فكلما أمرَ القرآنُ بالتفكر فإنما أشار مخاطِباً للعموم إلى طريق هذا ﹛﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرٰى مِنْ فُطُورٍ ﴾|﹜ (الملك:٣). ثم إنَّ الذي يومئ إلى هذا الدليل من هذه الآية قوله تعالى: ﹛﴿ اَلَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَٓاءَ بِنَٓاءًۖ وَاَنْزَلَ مِنَ السَّمَٓاءِ مَٓاءً فَاَخْرَجَ بِه۪ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ﴾|﹜ .
وأما «الدليل الاختراعيّ» المشار إليه بقوله تعالى: ﹛﴿ الَّذ۪ي خَلَقَكُمْ وَالَّذ۪ينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾|﹜ فهو: أن الله تعالى أعطى لكل فردٍ ولكل نوع وجوداً خاصاً هو منشأُ آثاره المخصوصة، ومنبعُ كمالاته اللائقة؛ إذ لا نوعَ يتسلسل إلى الأزل لإِمكانه، ولبطلان التسلسل، ولأن هذا التغيّر في العالَم يثبت حدوث بعضٍ بالمشاهدة، وبعضٍ آخر بالضرورة العقلية. ثم إنه قد ثبت بعلم
Yükleniyor...