وهذا لأجل أن الابتلاء يقتضيه.. وهذا لأجل أن سرَّ التكليف لتكميل البشر وسعادته يستلزمه. فأوجزَ التنزيلُ في الجواب.

⦁ إن قلت: قد قلتَ إنَّ التكليف لتأمين سعادة البشر مع أنه يكون سبباً لوقوع الأكثر في الشقاوة، ولولاه لما صار التفاوتُ بهذه الدرجة؟.

قيل لك: إنَّ الله تعالى كما كلّف الجزءَ الاختياريَّ بكسبه تشكيلَ عالَم الأفعال الاختيارية؛ كذلك جعل التكليف سببَ إسقاء وإنبات البذور الغير المحصورة المودعة في روح البشر. ولولاه لبقيَت الحبوباتُ يابسة. وإذا تأملتَ في أحوال النوع بنظر نافذٍ رأيت كلَّ ترقيات الروح المعنوية، وكلَّ تكملات الوجدان الإلهية، وتكملاتِ العقل، وترقياتِ الفكر المُثمرة بدرجة تحيّر فيها العقولُ إنما وُجِدت كافةً بالتكليف.. وإنما استيقظت ببعثةِ الأنبياء..وإنما تلقّحت بالشرائع.. وإنما أُلهمَت من الأديان. ولولاها لبقي الإنسانُ حيواناً ولانعدمت هذه الكمالاتُ الوجدانية وتلك المحاسن الأخلاقية. أما القسم القليل فقبِلوا التكليف اختياراً ففازوا بالسعادة الشخصية وصاروا سبباً للسعادة النوعية. وأما القسم الكثير كميةً فهم وإن كفروا بقلوبهم وفيما هم فيه مختارون، لكن لمّا لم يكن كلُّ حالِ كلِّ كافرٍ كافراً وكلُّ صفتِه كافرةً يابسة، كانوا بسبب إيقاظ البعثة للحسِّيات الوجدانية، وتنبيهِ النبوةِ للسجايا الأخلاقية، وبتسامع الشرائعِ، وتعارفِ آثارِها بحيث قد قَبلوا أنواعاً من التكليف اضطراراً.

⦁ فإن قلت: سعادة القليل مع شقاوة الكثير كيف تكون مَظهراً لسعادة النوع حتى تكون الشريعةُ رحمةً، مع أن سعادة النوع إنما تكون بالكلِّ أو الأكثر؟

قيل لك: إذا كان لك مائةُ بيضة ووضعتَها تحت طير، فافرخَتْ عشرين وأفسدت ثمانين؛ أفلا تقول قد تكمّل هذا النوع؟ إذ حياةُ عشرين تساوي ألوفَ بيضةٍ. أو كان لك مائةُ نواةِ تمرٍ فأسقيتها بالماء فصار عشرون منها نخلات باسقات وتفسخ ثمانون، أفلا تقول: الماءُ سعادةٌ لهذا النوع؟ أو كان لك معدن فسلطتَ عليه النارَ فأصفَت خُمسَه ذهباً وصيَّرتِ الباقي فحماً ورماداً، أفلا تكون النارُ سببَ كماله وسعادته؟ وقس على هذا! فإذن نشوءُ الحسيّات العالية ونموّ الأخلاق إنما هو بالمجاهدة، وتكمُّلُ الأشياء إنما هو بمقابلة الأضداد ومزاحمتها. ألا ترى أن حكومة إذا جاهَدت ينمو فيها الجسارةُ وإذا تركت انطفأت.. تأمل!


Yükleniyor...