⦁ إن قلت: من شأن الهداية والبلاغة البيان والوضوح وحفظ الأذهان عن التشتت، فما بال المفسرين في أمثال هذه الآية اختلفوا اختلافاً مشتتاً، وأظهروا احتمالات مختلفة، وبيّنوا وجوه تراكيب متباينة، وكيف يعرف الحق من بينها؟
قيل لك: قد يكون الكلُّ حقاً بالنسبة إلى سامعٍ فسامعٍ؛ إذ القرآن ما نزل لأهل عصرٍ فقط بل لأهل جميع الأعصار، ولا لطبقة فقط بل لجميع طبقات الإنسان، ولا لصنف فقط بل لجميع أصناف البشر. ولكلٍّ فيه حصةٌ ونصيب من الفهم. والحال أن فهمَ نوع البشر يختلف درجة درجة.. وذوقَه يتفاوت جهة جهة.. وميلَه يتشتت جانباً جانباً.. واستحسانَه يتفرق وجهاً وجهاً.. ولذتَه تتنوع نوعاً نوعاً.. وطبيعتَه تتباين قسماً قسماً. فكم من أشياء يستحسنها نظرُ طائفة دون طائفة، وتستلذُّها طبقةٌ ولا تتنزل إليها طبقة. وقِس!
فلأجل هذا السر والحكمة أكْثَرَ القرآنُ من حذف الخاص للتعميم ليقدِّر كلٌّ مقتضى ذوقه واستحسانه. ولقد نظّم القرآن جُمَله ووضعها في مكان ينفتح من جهاته وجوه محتملة لمراعاة الأفهام المختلفة ليأخذ كلُّ فهمٍ حصته. وقس! فإذن يجوز أن يكون الوجوهُ بتمامها مرادةً بشرط أن لا تردّها علومُ العربية، وبشرط أن تستحسنها البلاغةُ، وبشرط أن يقبلها علم أصول مقاصد الشريعة.
فظهر من هذه النكتة أن من وجوه إعجاز القرآن نظمَه وسبكَه في أسلوب ينطبق على أفهام عصر فعصر.. وطبقة فطبقة.
Yükleniyor...