وإذ تفهمتَ هذه المسائل فاستمع لما يُتلى عليك من نظم الآية بوجوهها الثلاثة؛ مِن نظم المجموع بما قبله، ونظم الجمل بعضها مع بعض، ونظم هيئاتِ وقيودِ جملةٍ جملةٍ.

أما النظم الأول فمن وجهين:

الأول: أنه لمّا قال: ﹛﴿ يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ ﴾|﹜ لإثبات التوحيد -على تفسير ابن عباس- أَثبت بهذه نبّوةَ محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو مِن أظهرِ دلائل التوحيد... ثم إن إثبات النبوّة بالمعجزات. وأعظمُ المعجزات هو القرآن. وأدقُّ وجوه إعجاز القرآن ما في بلاغة نظمه... ثم إنه اتفق الإسلامُ على أن القرآن معجِز، إلّا أن المحققين اختلفوا في طرق الإعجاز، لكن لا تزاحمَ بين تلك الطرق، بل كلٌّ اختار جهةً من جهاته؛ فعند بعضٍ إعجازُه إخباره بالغيوب، وعند بعضٍ جمعُه للحقائق والعلوم، وعند بعض سلامتُه من التخالف والتناقض، وعند بعض غرابةُ أسلوبه وبديعيتُه في مقاطعِ ومبادئ الآيات والسور، وعند بعض ظهورُه من أُمّيّ لم يقرأ ولم يكتب، وعند بعض بلوغُ بلاغة نظمِه إلى درجةٍ خارجة عن طوق البشر، وكذا وكذا.. الخ.

ثم اعلم أن معرفة هذا النوع من الإعجاز تفصيلاً إنما تحصل بمطالعة أمثال هذا التفسير، وإجمالاً يُعرَف بثلاث طرق. ( كما حققها عبد القاهر الجرجاني شيخ البلاغة، والزمخشري والسكاكي والجاحظ(∗) ) :

الطريق الأول: هو أنّ قومَ العرب كانوا بدويين أمّيين، ولهم محيطٌ عجيب يناسبهم.. وقد انتبهوا بالانقلابات العظيمة في العالم.. وكان ديوانُهم الشعرَ وعلمُهم البلاغةَ، ومفاخرتُهم بالفصاحة في أمثال سوق عُكاظة.. (164)وكانوا أذكى الأقوام.. وكانوا أحوجَ الناس لجَوَلان الذهن إذن.. ولقد كان لأذهانهم فصلُ الربيع، فطلع عليهم القرآنُ بحَشمة بلاغته فمحا وبهَر تماثيل بلاغتهم وهي «المعلقات السبعة» المكتوبة بذَوب الذهب على جدار الكعبة. مع أن أولئك الفصحاء البلغاء -الذين هم أمراء البلاغة وحُكام الفصاحة- ما عارضوا القرآن وما حاروا (165)ببنت شفةٍ، مع شدة تحدِّي النبيّ عليه السلام لهم، ولَومِه لهم، وتقريعه إياهم، وتسفيهه لأحلامهم، وتحريكِه لأعصابهم في زمان طويل، وترذيله لهم، مع أنّ من بلغائهم


Yükleniyor...