﹛بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾|﹜ ردٌّ وطردٌ لاعتراضات متسلسلة. كأنهم يقولون: أيّةُ حكمةٍ في مكالمة الله تعالى مع البشر، وعتابِه عليهم، والتشكِّي منهم؛ فإنها علامةُ أن للإنسان أيضاً تصرفاً آخرَ في العالم؛ لاسيما كالمحاورة الجارية بين الناس فإنها علامةُ أنه كلامُ البشر.. ولاسيما يتراءى من خلف الكلام تمثالُ إنسان.. ولاسيما بتصويراتٍ وتمثيلات فإنها علامةُ العجز عن إظهار الحقيقة.. ولاسيما إذا كانت التمثيلات عادية فإنها علامةُ انحصار ذهن المتكلم.. ولا سيما بأمور حقيرة فإنها علامة خفّة المتكلم.. ولاسيما إذا كانت مما لا اضطرار إليه وكان تركُه أَولى.. ولاسيما إذا كان بعض تلك الأمور مما يستحي أهلُ العزّة عن البحث عنه.. ولاسيما إذا كان الباحث ذا العظمة والجلال.. فأجاب القرآن هدماً لهذه السلسلة من المبدأ إلى المنتهى بضربةٍ واحدة فقال: ﹛﴿ اِنَّ اللّٰهَ لَا يَسْتَحْي۪ٓ... ﴾|﹜ الخ؛ لأن جهة الملكوتية لا تنافي العظمةَ والجلالَ فلا يتركها ولا يهملها؛ إذ الألوهيةُ تقتضي كذلك.

فإذن يمثَّل بالأمور المحقَّرة للمعاني المحقّرة؛ إذ حكمتُه مع سر البلاغة هكذا تقتضي.. فإذن يذكر التمثيلات العادية بناء على أنها الموافقة للتربية والإرشاد.. فإذن يصوّر الحقائق بتمثيلات بناءً على ما تقتضيه العنايةُ مع التنزّلات الإلهية.. فإذن يختار أسلوب محاورة البشر بعض مع بعض بناءً على ما تقتضيه الربوبية مع التربية.. فإذن يتكلم مع الناس بناءً على ما تقتضيه الحكمة مع النظام.

والحاصل: أن الله تعالى لمّا أودع في الإنسان جزءاً اختيارياً وجعله مصدراً لعالم الأفعال، أرسل كلامَه لينظم ذلك العالم.

وأن نظم جملةِ ﹛﴿ فَاَمَّا الَّذ۪ينَ اٰمَنُوا فَيَعْلَمُونَ اَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾|﹜ هو أنه لما ذكر في الأولى المدعى، أشار بهذه إلى طريق دليله. وكذا رمَزَ وأومأ إلى وجه دفع الأوهام، أي مَن نظرَ بنور الإيمان ومن جانب الله تعالى ومن جهة قدرته -جاعلاً حكمتَه وعنايتَه وربوبيتَه نصبَ العين- عَلِم أنه حق وبلاغة. وأما من نظر من جانب حضيض نفسِه، ومن جهة الممكنات، فلا جرم ستهوي به الأوهامُ.. ومثَلُهما كمثل شخصين مُصْعِداً منحدِراً (188)رأَيَا جداولَ ماء؛ أما أحدُهما فيصعد ويرى رأس العين ويذوق فيعلم أن الماء كلُّه عذب؛ فكلما


Yükleniyor...