ثم إن مما يُحوِج إلى التمثيل عمقَ المعنى ودقّتَه ليتظاهر بالتمثيل، أو تفرُّقَ المقصد وانتشارَه ليرتبط به. ومن الأوّل متشابهات القرآن؛ إذ هي عند أهل التحقيق نوعٌ من التمثيلات العالية وأساليبُ لحقائق محضة ومعقولاتٍ صرفة؛ ولأن العوام لا يتلقَّون الحقائقَ في الأغلب إلّا بصورة متخيّلة، ولا يفهمون المعقولات الصرفة إلّا بأساليب تمثيلية، لم يكن بدٌّ من المتشابهات ك ﹛﴿ اسْتَوٰى عَلَى الْعَرْشِ ﴾|﹜ (الأعراف:٥٤) لتأنيس أذهانهم ومراعاة أفهامهم.
ثم إني استخرجتُ -فيما مضى من الزمان- من أُسِّ أساس البلاغة مقدِّمةً لبيان إعجاز القرآن ثنتَي عشرة مسألة. كلٌّ منها خيطٌ لحقائق (109)ولما ذُكرت هذه الآيات التمثيلية هنا -دفعةً- ناسبَ تلخيص تلك المسائل فنقول وبالله التوفيق:
المسألة الأولى
إنَّ منشأ نقوش البلاغة إنما هو نظمُ المعاني دون نظم اللفظ، كما جرى عليه اللفظيون المتصلّفون، وصار حبُّ اللفظ فيهم مرضاً مزمناً إلى أن ردَّ عليهم عبد القاهر الجرجاني(∗) في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وحصر على المناظرة معهم أكثرَ من مائة صحيفة.
ونظمُ المعاني: عبارة عن توخّي المعاني النحوية فيما بين الكلمات أي إذابة المعاني الحَرفية بين الكَلِم لتحصيل النقوش الغريبة. وإن أمعنتَ النظر لرأيت أن المجرى الطبيعيّ للأفكار والحسيات إنما هو نظمُ المعاني. ونظم المعاني هو الذي يشيَّد بقوانين المنطق.. وأسلوبُ المنطق هو الذي يتسلسل به الفكرُ إلى الحقائق.. والفكر الواصل إلى الحقائق هو الذي ينفُذُ في دقائق الماهيات ونِسَبها.. ونِسَب الماهيات هي الروابط للنظام الأكمل.. والنظام الأكمل هو الصَدَفُ للحُسن المجرد الذي هو منبعُ كلِّ حُسن.. والحسنُ المجرّد هو الروضة لأزاهير البلاغة التي تسمى لطائفَ ومزايا.. وتلك الجنة المُزهرة هي التي يجولُ ويتنزّه فيها البلابلُ المسمّاة بالبلغاء وعشّاقِ الفطرة.. وأولئك البلابلُ نغماتُهم الحلوة اللطيفة إنما تتولد من تقطيع الصدى الروحاني المنتشر من أنابيب نظم المعاني.
والحاصل: أنَّ الكائنات في غاية البلاغة قد أنشأها وأنشدها صانعُها فصيحةً بليغة، فكلُّ صورة وكل نوع منها -بالنظام المندمج فيه- معجزةٌ من معجزات القدرة. فالكلام إذا
ثم إني استخرجتُ -فيما مضى من الزمان- من أُسِّ أساس البلاغة مقدِّمةً لبيان إعجاز القرآن ثنتَي عشرة مسألة. كلٌّ منها خيطٌ لحقائق (109)ولما ذُكرت هذه الآيات التمثيلية هنا -دفعةً- ناسبَ تلخيص تلك المسائل فنقول وبالله التوفيق:
المسألة الأولى
إنَّ منشأ نقوش البلاغة إنما هو نظمُ المعاني دون نظم اللفظ، كما جرى عليه اللفظيون المتصلّفون، وصار حبُّ اللفظ فيهم مرضاً مزمناً إلى أن ردَّ عليهم عبد القاهر الجرجاني(∗) في دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، وحصر على المناظرة معهم أكثرَ من مائة صحيفة.
ونظمُ المعاني: عبارة عن توخّي المعاني النحوية فيما بين الكلمات أي إذابة المعاني الحَرفية بين الكَلِم لتحصيل النقوش الغريبة. وإن أمعنتَ النظر لرأيت أن المجرى الطبيعيّ للأفكار والحسيات إنما هو نظمُ المعاني. ونظم المعاني هو الذي يشيَّد بقوانين المنطق.. وأسلوبُ المنطق هو الذي يتسلسل به الفكرُ إلى الحقائق.. والفكر الواصل إلى الحقائق هو الذي ينفُذُ في دقائق الماهيات ونِسَبها.. ونِسَب الماهيات هي الروابط للنظام الأكمل.. والنظام الأكمل هو الصَدَفُ للحُسن المجرد الذي هو منبعُ كلِّ حُسن.. والحسنُ المجرّد هو الروضة لأزاهير البلاغة التي تسمى لطائفَ ومزايا.. وتلك الجنة المُزهرة هي التي يجولُ ويتنزّه فيها البلابلُ المسمّاة بالبلغاء وعشّاقِ الفطرة.. وأولئك البلابلُ نغماتُهم الحلوة اللطيفة إنما تتولد من تقطيع الصدى الروحاني المنتشر من أنابيب نظم المعاني.
والحاصل: أنَّ الكائنات في غاية البلاغة قد أنشأها وأنشدها صانعُها فصيحةً بليغة، فكلُّ صورة وكل نوع منها -بالنظام المندمج فيه- معجزةٌ من معجزات القدرة. فالكلام إذا
Yükleniyor...