مثلاً: إن الجمهور إنما يتصورون حقيقةَ التصرف الإلهي في الكائنات بصورة تصرف السلطان الذي استوى على سرير سلطنته. ولهذا اختار الكناية في: ﹛﴿ اَلرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوٰى ﴾|﹜ (طه:٥) وإذا كانت حسيّات الجمهور في هذا المركز فالذي يقتضيه منهجُ البلاغة ويستلزمه طريقُ الإرشاد رعايةُ أفهامهم واحترامُ حسياتهم ومماشاةُ عقولهم ومراعاةُ أفكارهم، كمن يتكلم مع صبي فهو يتصبّى في كلامه ليفهمه ويستأنس به. فالأساليبُ القرآنية في أمثال هذه المنازل المرعيِّ فيها الجمهورُ تسمى ب«التنزلات الإِلهية إلى عقول البشر»، فهذا التنزّلُ لتأنيس أذهانهم. فلهذا وُضِعَ صورُ المتشابهات منظاراً على نظر الجمهور. ألا ترى كيف أكثرَ البُلغاء من الاستعارات لتصور المعاني الدقيقة، أو لتصوير المعاني المتفرقة! فما هذه المتشابهات إلّا من أقسام الاستعارات الغامضة، إذ إنها صورٌ للحقائق الغامضة.

أما كون العبارة مُشكلاً؛ فإما لدقّة المعنى وعمقِه، وإيجازِ الأسلوب وعلويته، فمشكلاتُ القرآن من هذا القبيل.. وإما لإِغلاق اللفظ وتعقيد العبارة المنافي للبلاغة، فالقرآن مبرأٌ منه. فيا أيها المرتاب! أفلا يكون من عين البلاغة تقريبُ مثل هذه الحقائق العميقة البعيدة عن أفكار الجمهور إلى أفهام العوام بطريق سهل، إذ البلاغةُ مطابقةُ مقتضى الحال؟ فتأمل..

أما الجواب عن الريب الثاني، وهو إبهامُ القرآن في بحث تشكّل الخِلقة على ما شرحتْه الفنونُ الجديدة... فاعلم أن في شجرة العالم ميلَ الاستكمال، وتشعَّبَ منه في الإنسان ميلُ الترقي، وميلُ الترقي كالنواة يحصل نشوؤه ونماؤه بواسطة التجارب الكثيرة، ويتشكل ويتوسع بواسطة تلاحق نتائج الأفكار؛ فيثمر فنوناً مترتبة بحيث لا ينعقد المتأخر إلّا بعد تشكّل المتقدم، ولا يكون المتقدمُ مقدمةً للمؤخر إلّا بعد صيرورته كالعلوم المتعارَفة. فبناءً على هذا السر، لو أراد أحدٌ تعليم فنٍّ أو تفهيمَ علمٍ -وهو إنما تولّدَ بتجارب كثيرة- ودعا الناس إليه قبل هذا بعشرة أعصُرٍ لا يفيد إلّا تشويشَ أذهان الجمهور، ووقوعَ الناس في السفسطة والمغلطة.

مثلا: لو قال القرآن: «أيها الناس انظروا إلى سكون الشمس (160)وحركةِ الأرض واجتماع


Yükleniyor...