على المرجِّح، وإما «حدوثيّ» بالاستدلال بالتحوّل والتبدّل على المُوجِد.. وكلٌّ منهما إما باعتبار ذوات الأشياء أو باعتبار صفاتها.. وكلٌّ منها إما بإعطاء الوجود أو بإدامة البقاء.. وكل منها إما «دليل اختراعيّ» أو «دليل عِنَايَتيّ». وهذه الآية إشارة إلى هذه الأنواع، فالملخَّص منها هنا، وقد فصلناه في كتاب آخر. (139)

أما «دليل العناية» على إثبات الصانع الذي تلوِّح به هذه الآية، هو: «النظام المندمج في الكائنات»؛ إذ النظام خيطٌ نيط به المصالحُ والحِكم. فجميع الآيات القرآنية التي تَعُدّ منافع الأشياء وتذكُر حِكَمها إنما هي نسّاجةٌ لهذا الدليل، ومظاهرُ لتجلِّي هذا البرهان؛ إذ النظام المرعي به المصالحُ والحِكم كما يُثبِت وجود نظّام، كذلك يدل على قصد الصانع وحكمته وينفي من البَيْن وهْمَ التصادف الأعمى والاتفاقية العمياء.

يا هذا! إن لم يُحِط نظرُك بهذا النظام العالي المزيَّن بفصوص الحِكَم، ولا تقتدرُ على الاستقراء التام؛ فانظر بجواسيس الفنون -التي هي الحواسّ لنوعك- الحاصلةِ من تلاحق الأفكار -الذي هو في حُكم فكر النوع- لترى نظاماً يبهر العقولَ، وتعلمَ أن كلّ فن من فنون الكائنات كشّاف بكلية قواعده عن اتساق وانتظام لا يُعقل أكملُ منهما؛ إذ كل نوع من الكائنات إما تَشكّلَ فيه فنٌ أو يقبل أن يتشكل. والفن عبارة عن قواعد كلية. وكليةُ القاعدة تدلّ على حُسن النظام؛ إذ ما لا نظام له لا تجري فيه الكلية. ألَا ترى أن قولَنا: «كل عالِم فهو ذو عمامة بيضاء» إنما يصدُق كليّةً، إذا كان في ذلك النوع انتظام. فأنتج أن كل فن من الفنون الكونية، بسبب كليةِ قواعدِه ينتجُ بالاستقراء التام نظاماً كاملاً شاملاً.. وأن كل فن برهانٌ نيّر يشير إلى المصالح والثمرات المتدلية كالعناقيد في حلقاتِ سلاسلِ الموجودات، ويلوِّح إلى الحِكَم والفوائد المستترة في معاطف انقلابات الأحوال. فتَرْفع الفنونُ أعلامَ الشهادة على قصد الصانع وحكمته، كأن كلَّ فن نجمٌ ثاقب في طرد شياطين الأوهام.

وإن شئت فعليك بهذا المثال مع قطع النظر عن العموم وهو: أن الحيوان المكروسكوبيّ الذي لا يُرى بالعين بلا واسطة، اشتملت صورتُه الصغيرة على ماكينة دقيقة بديعة إلهية. فبالضرورة والبداهة أن تلك الماكينة الممكنة في ذاتها وصفاتها ما وُجدت بنفسها بلا علة، لإمكان ذاتها وصفاتها وأحوالها. والممكن متساوي الطرفين ككفتَي الميزان، ولو وجد الترجّح


Yükleniyor...