وأما باعتبار المخاطَب فكأنه يقول: «اعبدوا حال كونِكم راجين للتقوى، ومتوسطين بين الرجاء والخوف». وفي هذا الاعتبار إشارة إلى أنه لابد أن لا يعتمد الإنسان على عبادته.. وكذا إيماء إلى أنه لابد أن لا يكتفي بما هو فيه، بل لزم أن يكون مصداقا ل«عليك بالحركة غيرِ السكون» فينظرَ في كل مرتبة إلى ما فوقها.

وأما باعتبار المشاهدين والسامعين، فكأن من شاهد البشر مجهّزا ومسلّحا باستعدادات، يأمل ويرجو منه العبادة، كمن يرى مخالبَ حيوان وأنيابه، يأمل منه الافتراس.. وكذلك إشارة إلى أن العبادة مقتضى الفطرة.

أما لفظ ﹛﴿ تَتَّقُونَ ﴾|﹜ فإشارة -بحكم ترتّبه على عبادة الطبقات المذكورة- إلى مراتب التقوى وهي: التقوى عن الشرك، ثم التقوى عن الكبائر، ثم التقوى بحفظ القلب عما سواه تعالى.. وكذا التقوى بالتجنب عن العقاب.. وأيضاً التقوى بالتحرز عن الغضب.. وكذا رمز إلى أن العبادة بالإخلاص تكون عبادةً.. وأيضاً إيماء إلى أن العبادة مقصودةٌ بالذات لا وسيلة محضة.. وكذلك رمز إلى أن العبادة لابد أن لا تكون لأجل الثواب والعقاب.

أما هيئات آيةِ ﹛﴿ اَلَّذ۪ي جَعَلَ لَكُمُ الْاَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَٓاءَ بِنَٓاءً ﴾|﹜

فاعلم أنها إشارة إلى التهييج على العبادة ببيان عظمةِ قدرة الصانع، وإلى التشويق عليها بالامتنان. كأنه يقول: أيها الإنسان! إن الذي سخّر لك الأرض والسماء يستحق أن تعبده.. وكذا إيماء إلى فضيلة البشر وعلوّ قيمته ومُكرَّمِيَّتِه عند الله، كأنه يقول: «إنَّ الذي أكرمكم بأنْ هيّأ الأجرامَ العلوية والسفلية بعظمتها لاستفادتكم، لابد أن تُظهروا لياقتكم للكرامة بعبادته..» وكذا تلميح إلى ردِّ التصادف والاتفاق وتأثيرِ الطبيعة، أي إن كل ما ترون بصفاتها إنما هي بجعلِ جاعلٍ وقصدِ قاصدٍ وتخصيصِ مخصِّص ونظمِ نظَّام جلّت حكمتُه.. وكذا تلويح إلى ردِّ مذهب أهل الطبيعة ومذهب الصابئين المولِّدِ لمذهب الوثنيين.. وايضاً تنبيه إلى أن صفات الأجسام بإمكانها تدل على الصانع؛ إذ الأجسام متساويةٌ ذراتُها في قابلية الأحوال والكيفيات العمومية، فكل صفة ممكنةٌ مترددة بين احتمالات كثيرة، فكل جسم باعتبار كل صفة وكيفية يحتاج إلى قصد وحكمة وتخصيصِ مخصِّص.

Yükleniyor...