بكل حيوية، كمرور مشاهد الفلم السينمائي.. تلك الحياة السارة التي قضيتُها في تدريس طلابي النجباء بما يقرب من عشرين سنة، وفي هذه الأماكن نفسها، التي كانت عامرة بهيجة وذات نشوة وسرور، فأصبحت الآن خرائبَ وأطلالاً. قضيت فترة طويلة أمام هذه اللوحات من حياتي، وعندها بدأتُ أستغرب من حال أهل الدنيا، كيف أنهم يخدعون أنفسهم، فالوضع هذا يبيّن بداهة أن الدنيا لا محالة فانية، وأن الإنسان فيها ليس إلّا عابر سبيل، وضيفاً راحلاً. وشاهدت بعينيّ مدى صدق ما يقوله أهل الحقيقة: «لا تنخدعوا بالدنيا فإنها غدّارة.. مكّارة.. فانية..». ورأيت كذلك أن الإنسان ذو علاقة مع مدينته وبلدته بل مع دنياه مثلما له علاقة مع جسمه وبيته، فبينما كنت أريد أن أبكي بعينيّ لشيخوختي -باعتبار وجودي- كنت أريد أن أجهش بالبكاء بعشرة عيون لا لمجرد شيخوخة مدرستي، بل لوفاتها، بل كنت أشعر أنني بحاجة إلى البكاء بمائة عين على مدينتي الحلوة الشبيهة بالميتة.

لقد ورد في الحديث الشريف من أن مَلَكاً ينادي كل صباح: (لِدوا للموت وابنوا للخراب) (15) كنت اسمع هذه الحقيقة، اسمعها بعينيّ لا بأذني، ومثلما أبكاني وضعي في ذلك الوقت، فإن خيالي منذ عشرين سنة يذرف الدموع أيضاً كلّما مرّ على ذلك الحال. نعم إن دمار تلك البيوت في قمة القلعة التي عمّرت آلاف السنين، واكتهال المدينة التي تحتها خلال ثماني سنوات، حتى كأنه قد مرّت عليها ثمانمائة سنة، ووفاة مدرستي -أسفل القلعة- التي كانت تنبض بالحياة والتي كانت مجمع الأحباب.. تشير إلى وفاة جميع المدارس الدينية في الدولة العثمانية. وتبين العظمة المعنوية لجنازتها الكبرى، حتى كأن القلعة التي هي صخرة صلدة واحدة، قد أصبحت شاهدة قبرها. ورأيت أن طلابي -رحمهم الله جميعاً- الذين كانوا معي في تلك المدرسة -قبل ثماني سنوات- وهم راقدون في قبورهم، رأيتُهم كأنهم يبكون معي، بل تشاركني البكاء والحزن حتى بيوتُ المدينة المدَمَّرة، بل حتى جدرانُها المنهدّة وأحجارُها المبعثرة.

نعم إنني رأيت كُل شيء وكأنه يبكي، وعندئذٍ علمت أنني لا أستطيع أن أتحمّل هذه الغربة في مدينتي، ففكرت إما أن أذهب إليهم في قبورهم أو عليّ أن انسحب إلى مغارة في الجبل منتظراً أَجلي، وقلت ما دام في الدنيا مثل هذه الفراقات والافتراقات التي لا يمكن أن يُصبَر عليها، ولا يمكن أن تقاوم، وهي مؤلمة ومحرقة إلى هذه الدرجة، فلا شك أن الموت أفضلُ من

Yükleniyor...