وهكذا فإن إثابة الحارس تسعة أضعاف ما يُقدّم إلى حاكم القصر من هدايا تُفضي به لا محالة إلى الغرور والجشع وتدفعه بالتالي إلى القول: إنما أنا الحاكم. فمَنْ كافأه بهبة أكثر ولذة أزيد دفعه إلى الداخل، مسبّباً إخلال النظام القائم هناك، مضرماً فيه ناراً مستعرة وملزماً صاحبه الاستغاثة صارخاً: هيّا أسرعوا إلى بالطبيب حالاً ليخفف شدة حرارتي ويطفئ لظى نارها.

فالاقتصاد والقناعة منسجمان انسجاماً تاماً مع الحكمة الإلهية، إذ يتعاملان مع القوة الذائقة معاملة الحارس، ويقفانها عند حدّها ويكافئانها حسب تلك الوظيفة. أما الإسراف فلأنه يسلك سلوكاً مخالفاً لتلك الحكمة، فسرعان ما يتلقّى المسرف صفعات موجِعة، إذ تحدث الاختلاطات المؤلمة في المعدة التي تؤدي إلى فقدان الشهية الحقيقية نحو الأكل، فيأكل بشهية كاذبة مصطنعة بتنويع الأطعمة مما يسبب عُسراً في الهضم.

النكتة الثالثة

قلنا في النكتة الثانية آنفاً: إنَّ القوة الذائقة تؤدي دور الحارس. نعم، هي كذلك عند الغافلين الذين لم يَسمُوا بعدُ روحياً والذين لم يتقدموا في مضمار الشكر والعروج في مدارجه. نعم إنه لا ينبغي اللجوء إلى الإسراف -كصرف عشرة أضعاف الثمن- لأجل تلذذ تلك الحاسة الحارسة. ولكن القوة الذائقة لدى الشاكرين حقاً ولدى أهل الحقيقة وأَهل القلوب وأُولي الأَبصار بمثابة راصدة وناظرة مفتشة لمطابخ الرحمة الإلهية (كما وضح ذلك في المقارنة المعقودة في الكلمة السادسة). وإن ما يتم في تلك القوة الذائقة من عملية تقدير قيمة النعم الإلهية ومن التعّرف عليها بأنواعها المختلفة بما فيها من موازين دقيقة حساسة عديدة بعدد الأطعمة، إنما هو لإبلاغ الجسد والمعدة، بما ينمّ عن شكر معنوي.

فلا تقتصر وظيفة القوة الذائقة على رعاية الجسد رعايةً مادية وحدَها، بل هي أَيضاً أَرقى حكماً من وظيفة المعدة وأَرفع منزلة منها، لما لها من رعاية للقلب والروح والعقل ومن عناية لكل منها، علماً أنها تستطيع أن تمضي في سبيل الحصول على لذتها -بشرط عدم الإسراف- إنجازاً لمهمة الشكر الخالص المقدّرة لها، وبنيّة التعرف والإطلاع على أَنواع النعم الإلهية بتذوقها والشعور بها بشرط مشروعيتها وعدم كونها وسيلة للتذلل والاستجداء، أي

Yükleniyor...