فهذه الدنيا إذن ليست خالية لا أنيس فيها ولا حسيس، وهذه الجبال الخاوية، وتلك الصحارى المقفرة كلُّها عامرة ومأهولة بعباد الله المكرمين، بالملائكة الكرام. نعم، إن نور الإيمان بالله سبحانه، والنظرة إلى الكون لأجله، يجعل الأشجار بل حتى الأحجار كأنها أصدقاءٌ مؤنسون فضلاً عن ذوي الشعور من عباده، حيث يمكن لتلك الموجودات أن تتكلم معنا -بلسان الحال- بما يسلّينا ويروّح عنا.

نعم، إنَّ الدلائل على وجوده سبحانه بعدد موجودات هذا الكون، وبعدد حروف كتاب العالم الكبير هذا، وهناك دلائل وشواهد على رحمته بعدد أجهزة ذوي الأرواح وما خصهم من نِعَمه ومطعوماته التي هي محور الشفقة والرحمة والعناية، فجميعُها تدل على باب خالقنا الرحيم والكريم، وصانعنا الأنيس، وحامينا الودود، ولا شك أن العجز والضعف هما أرجى شفيعين عند ذلك الباب السامي. وأن عهد الشيب أوانُهما، ووقتُ ظهورهما، فعلينا إذن أن نودّ الشيخوخة، وأن نحبها، لا أن نعرض عنها؛ إذ هي شفيع مرتجى أمام ذلك الباب الرفيع.

الرجاء السابع

حينما تبدلت نشوة «سعيد القديم» وابتساماته إلى نحيب «سعيد الجديد» وبكائه، وذلك في بداية المشيب، دعاني أربابُ الدنيا في «أنقرة» إليها، ظناً منهم أنني «سعيد القديم» فاستجبت للدعوة.

فذات يوم من الأيام الأخيرة للخريف، صعدت إلى قمّة «قلعة أنقرة»، التي أصابها الكبر والبلى أكثر مني، فتمثّلت تلك القلعة أمامي كأنها حوادث تاريخية متحجرة، واعتراني حزن شديد وأسى عميق من شيب السنة في موسم الخريف، ومن شيبي أنا، ومن هرم القلعة، ومن هرم البشرية ومن شيخوخة الدولة العثمانية العلية، ومن وفاة سلطنة الخلافة، ومن شيخوخة الدنيا. فاضطرتني تلك الحالة إلى النظر من ذروة تلك القلعة المرتفعة إلى أودية الماضي وشواهق المستقبل، أنقب عن نور، وأبحث عن رجاء وعزاء ينير ما كنت أحسّ به من أكثف الظلمات التي غشيت روحي هناك وهي غارقة في ليل هذا الهرم المتداخل المحيط. (5)


Yükleniyor...