شاهدت تحولاً هائلاً جداً قد جرى خلال ثماني سنوات حتى إنني كلّما كنتُ أفتح عيني أرى كأن عصراً قد ولّى ومضى بأحداثه. رأيت أنّ مركز المدينة المحيطة بمدرستي -الذي هو بجانب القلعة- قد أُحرق من أقصاه إلى أقصاه ودُمّر تدميراً كاملاً. فنظرت إلى هذا المنظر نظرة حزن وأسى.. إذ كنت أشعر الفرق الهائل بين ما كنت فيه وبين ما أراه الآن، وكأن مائتي سنة قد مرّت على هذه المدينة.. كان أغلب الذين يعمّرون هذه البيوت المهدَّمة أصدقائي، وأحبّةً أعزّاء عليّ.. فلقد توفّي قسمٌ منهم بالهجرة من المدينة وذاقوا مضاضتها، تغمدهم الله جميعاً برحمته. حيث دُمّرت بيوتُ المسلمين في المدينة كليّاً ولم تبق إلّا «محلة الأرمن»، فتألمت من الأعماق، وحزنت حزناً شديداً ما لو كان لي ألف عين لكانت تسكب الدموع مدراراً.
كنت أظن أنني قد نجوت من الاغتراب حيث رجعت إلى مدينتي، ولكن -ويا للأسف- لقد رأيت أفجعَ غربة في مدينتي نفسها؛ إذ رأيت مئاتٍ من طلابي وأحبتي الذين ارتبط بهم روحياً -كعبد الرحمن المار ذكره في الرجاء الثاني عشر- رأيتُهم قد أُهيل عليهم التراب والأنقاض، ورأيت أن منازلَهم أصبحت أثراً بعد عين، وأمام هذه اللوحة الحزينة تجسّد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلّا أنني لم أكن أفهم معناها تماماً:
لَوْ لَا مُفَارَقَةُ الأحْبَابِ مَا وَجَدَتْ لَهَا الْمَنَايَا إلى أرْوَاحِنَا سُبُلاً (14)
أي أن أكثر ما يقضي على الإنسان ويهلكه إنما هو مفارقة الأحباب.
نعم، إنه لم يؤلمني شيءٌ ولم يبكني مثل هذه الحادثة، فلو لم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيمان لكان ذلك الغمُّ والحزن والهمّ يؤثر فيّ إلى درجة كافية لسلب الروح منّي. لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على أطلالها فرأيت يعينيَّ لوحةَ الفراق الحزينة هذه.. فبكَت روحي وقلبي مع عيني بحزن شديد كمن يمرُّ بعد مائتي سنة على ديار أحبّته وأطلالها..
عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لحياتي أمام عيني وخيالي واحدة تلو الأخرى
كنت أظن أنني قد نجوت من الاغتراب حيث رجعت إلى مدينتي، ولكن -ويا للأسف- لقد رأيت أفجعَ غربة في مدينتي نفسها؛ إذ رأيت مئاتٍ من طلابي وأحبتي الذين ارتبط بهم روحياً -كعبد الرحمن المار ذكره في الرجاء الثاني عشر- رأيتُهم قد أُهيل عليهم التراب والأنقاض، ورأيت أن منازلَهم أصبحت أثراً بعد عين، وأمام هذه اللوحة الحزينة تجسّد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلّا أنني لم أكن أفهم معناها تماماً:
لَوْ لَا مُفَارَقَةُ الأحْبَابِ مَا وَجَدَتْ لَهَا الْمَنَايَا إلى أرْوَاحِنَا سُبُلاً (14)
أي أن أكثر ما يقضي على الإنسان ويهلكه إنما هو مفارقة الأحباب.
نعم، إنه لم يؤلمني شيءٌ ولم يبكني مثل هذه الحادثة، فلو لم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيمان لكان ذلك الغمُّ والحزن والهمّ يؤثر فيّ إلى درجة كافية لسلب الروح منّي. لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على أطلالها فرأيت يعينيَّ لوحةَ الفراق الحزينة هذه.. فبكَت روحي وقلبي مع عيني بحزن شديد كمن يمرُّ بعد مائتي سنة على ديار أحبّته وأطلالها..
عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لحياتي أمام عيني وخيالي واحدة تلو الأخرى
Yükleniyor...