كنت أظن أنني قد نجوت من الاغتراب حيث رجعت إلى مدينتي، ولكن -ويا للأسف- لقد رأيت أفجعَ غربة في مدينتي نفسها؛ إذ رأيت مئاتٍ من طلابي وأحبتي الذين ارتبط بهم روحياً -كعبد الرحمن المار ذكره في الرجاء الثاني عشر- رأيتُهم قد أُهيل عليهم التراب والأنقاض، ورأيت أن منازلَهم أصبحت أثراً بعد عين، وأمام هذه اللوحة الحزينة تجسّد معنى هذه الفقرة لأحدهم والتي كانت في ذاكرتي منذ زمن بعيد إلّا أنني لم أكن أفهم معناها تماماً:
لَوْ لَا مُفَارَقَةُ الأحْبَابِ مَا وَجَدَتْ لَهَا الْمَنَايَا إلى أرْوَاحِنَا سُبُلاً (14)
أي أن أكثر ما يقضي على الإنسان ويهلكه إنما هو مفارقة الأحباب.
نعم، إنه لم يؤلمني شيءٌ ولم يبكني مثل هذه الحادثة، فلو لم يأتني مددٌ من القرآن الكريم ومن الإيمان لكان ذلك الغمُّ والحزن والهمّ يؤثر فيّ إلى درجة كافية لسلب الروح منّي. لقد كان الشعراء منذ القديم يبكون على منازل أحبتهم عند مرورهم على أطلالها فرأيت يعينيَّ لوحةَ الفراق الحزينة هذه.. فبكَت روحي وقلبي مع عيني بحزن شديد كمن يمرُّ بعد مائتي سنة على ديار أحبّته وأطلالها..
عند ذلك مرّت الصفحات اللطيفة اللذيذة لحياتي أمام عيني وخيالي واحدة تلو الأخرى
Yükleniyor...