القسم الثالث: فهو كالنور، يُرى ولكن لا يُحس، ولا يؤخذ ولا يستمسك، فتعرّض له وقابله ببصيرة قلبك ونظر روحك، وتوجّه إليه ببصرك، ثم انتظر، فلربما يأتي بذاته ومن نفسه. لأن النور لا يؤخذ باليد، ولا يُصاد بالأصابع، بل بنور البصيرة يُصاد. فإذا مددت إليه يداً مادية حريصةً، ووزنتَه بموازين مادية، فإنه يختفي وإن لم ينطفئ، لأن نوراً كهذا مثلما أنه لا يرضى بالماديّ حبساً، ولا يدخل بالقيد أبداً، فإنه لا يرضى بالكثيف مالكاً وسيداً عليه.

المذكِّرة الحادية عشرة

انظر إلى درجة رحمة القرآن الواسعة وشفقته العظيمة على جمهور العوام ومراعاته لبساطة أفكارهم ونظرهم غير الثاقب إلى أمور دقيقة، انظر كيف يكرر ويُكثر الآيات الواضحة المسطورة في جباه السماوات والأرض، فيُقرئهم الحروف الكبيرة التي تُقرأ بكمال السهولة، كخلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء، وإحياء الأرض.. وأمثالها من الآيات. ولا يوجّه الأنظار إلى الحروف الدقيقة المكتوبة في الحروف الكبيرة إلّا نادراً، كيلا يصعب عليهم الأمر.

ثم انظر إلى جزالة بيان القرآن وسلاسة أسلوبه وفطريته، كيف يتلو على الإنسان ما كتبتْهُ القدرةُ الإلهية في صحائف الكائنات من آياتٍ حتى كأن القرآنَ قراءةٌ لما في كتاب الكائنات وأنظمتها، وتلاوةٌ لشؤون بارئها المصّور وأفعاله الحكيمة. فإن شئت استمع بقلبٍ شهيد لقوله تعالى: ﹛﴿ عَمَّ يَتَسَٓاءَلُونَ ﴾|﹜ (النبأ:١) و ﹛﴿ قُلِ اللّٰهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾|﹜ (آل عمران:٢٦) وأمثالهما من الآيات الكريمة.

المذكِّرة الثانية عشرة

يا أحبائي المستمعين لهذه المذكِّرات، اعلموا! أني قد أَكتب تضرّع قلبي إلى ربّي مع أن من شأنه أن يُستَر ولا يُسطَر، رجاءً من رحمته تعالى أن يقبل نُطق كتابي، بدلاً عني إذا أَسكت الموتُ لساني.. نعم، لا تسع توبةُ لساني في عمري القصير كفارةً لذنوبي الكثيرة. فنطقُ الكتاب الثابت الدائم أوفى لها. فقبل ثلاث عشرة سنة وأثناء اضطراب روحي عارم وفي غمرة تحَولِ ضحكاتِ «سعيد القديم» إلى بكاء «سعيد الجديد» أفقت من ليل الشباب على صبح المشيب فسطرتُ هذه المناجاة باللغة العربية، أوردها كما هي:

Yükleniyor...