النكتة الثالثة

عندما كان يسعى هذا السعيدُ الفقير إلى الله، للخروج من حالة «سعيد القديم» ارتجَّ عقلي وقلبي وتدحرجا ضمن الحقائق إزاء إعصار معنوي رهيب، فقد شعرتُ كأنهما يتدحرجان هبوطاً تارة من الثريا إلى الثرى وتارة صعداً من الثرى إلى الثريا، وذلك لانعدام المرشد، ولغرور النفس الأمارة.

فشاهدتُ حينئذ أن مسائل السنة النبوية الشريفة بل حتى أبسطَ آدابها، كل منها في حكم مؤشر البوصلة الذي يبين اتجاهَ الحركة في السفن. وكلٌّ منها في حكم مفتاح مصباح يضيء ما لا يُحصر من الطرق المظلمة المضرة.

وبينما كنت أرى نفسي في تلك السياحة الروحية أرزحُ تحت ضغط مضايقاتٍ كثيرة وتحت أعباءِ أثقالٍ هائلة، إذا بي أشعر بخفة كلما تتبعتُ مسائلَ السنة الشريفة المتعلقة بتلك الحالات، وكأنها كانت تحمل عني جميعَ الأثقال وترفع عن كاهلي تلك الأعباء. فكنت أنجو باستسلام تام للسنة من هموم التردد والوساوس مثل: «هل في هذا العمل مصلحة؟ تُرى هل هو حق؟». وكنت أرى متى ما كففتُ يدي عن السنة تشتد موجاتُ المضايقات وتكثر، والطرقُ المجهولة تتوعّر وتغمض، والأحمالُ تثقل.. وأنا عاجزٌ في غايةِ العجز ونظري قصير، والطريقُ مظلمةٌ. بينما كنت أشعر متى ما اعتصمتُ بالسنة، وتمسكتُ بها، تتنور الطريقُ من أمامي، وتظهر كأنها طريقٌ آمنة سالمة والأثقالُ تخف والعقبات تزول.

نعم، هكذا أحسست في تلك الفترة فصدّقتُ حُكمَ الإمام الرباني بالمشاهدة.

النكتة الرابعة

غمرتني -في فترة ما- حالةٌ روحية نبعت من التأمل في «رابطة الموت» ومن الإيمان بقضية «الموت حق»، ومن طول التفكر بزوال العالم وفنائه. فرأيت نفسي في عالَم عجيب، إذ نظرتُ فإذا أنا جنازةٌ واقفة على رأس ثلاثِ جنائزَ مهمة وعظيمة:

الأولى: الجنازةُ المعنوية لمجموع الأحياء التي لها ارتباطٌ بحياتي الشخصية، والتي ماتتْ ومضت ودفنت في قبر الماضي.. وما أنا إلّا كشاهدِ قبرِها موضوعٌ على جثتها.

Yükleniyor...