سبيل إلى العزة بالابتعاد عن ذلّ الاستجداء المعنوي.. وهو وسيلة قوية للاحساس بما في النعم والآلاء من لذة.. وهو سبب متين لتذوق اللذائذ المخبأَة في ثنايا نعَمٍ تبدو غير لذيذة.. ولكون الإسراف يخالف الحِكَم المذكورة آنفاً باتت عواقبُه وخيمة.

النكتة الثانية

لقد خلق الفاطر الحكيم جسم الإنسان بما يشبه قصراً كاملَ التقويم وبما يماثل مدينة منتظمة الأجزاء، وجعل حاسةَ الذوق المغروزة في فمه كالبوّاب الحارس، والأعصاب والأوعية بمثابة أسلاك هاتف وتلغراف (تتم خلالها دورة المخابرة الحساسة بين القوة الذائقة والمعدة التي هي في مركز كيان الإنسان) بحيث تقوم حاسةُ الذوق تلك بإبلاغ ما حلّ في الفم من المواد، وتحجز عن البدن والمعدة الأشياء الضارة التي لا حاجةَ للجسم لها قائلة: «ممنوع الدخول» نابذةً إياها، بل لا تلبث أَنْ تدفع وتبصق باستهجان في وجهِ كل ما هو غير نافع للبدن فضلاً عن ضرره ومرارته.

ولما كانت القوة الذائقة في الفم تؤدي دور الحارس. وإن المعدة هي سيدةُ الجسد وحاكمته من حيث الإدارة، فلو بلغت قيمةُ هديةٍ تُقدَّم إلى حاكم القصر مائة درجة فإنَّ خُمساً منها فقط يجوز أن يعطى هبةً للحارس لا أكثر، كيلا يختال الحارس وينسى وظيفتَه ويقحمَ في القصر كل مخلّ عابث يرشوه قرشاً أكثر.

وهكذا، بناءً على هذا السرّ، نفترض الآن أمامنا لقمتان، لقمة منها من مادة مغذّية -كالجبن والبيض مثلاً- يُقدّر ثمنها بقرش واحد، واللقمة الأخرى حلوى من نوع فاخر يُقدّر ثمنها بعشرة قروش، فهاتان اللقمتان متساويتان قبل دخولهما الفم ولا فرق بينهما، وهما متساويتان كذلك من حيث إنماء الجسم وتغذيته بعد دخولهما الفم ونزولهما عبر البلعوم. بل قد يغذّي الجبن -الذي هو بقرش واحد- تغذية أفضل وتنمية أقوى من اللقمة الأخرى. إذن ليس هناك من فرق إلّا ملاطفةَ القوة الذائقة في الفم التي لا تستغرق سوى نصف دقيقة. فليقدَّر إذن مدى ضرر الإسراف ويوازَن مدى التفاهة في صرف عشرة قروش بدلاً عن قرش واحد في سبيل الحصول على لذة تستغرق نصف دقيقة!

Yükleniyor...