مخلوقاته وأكرمُها وأجمعها وأهمّها وأحبها إليه، ولا يمحوه بالفناء والإعدام النهائي، بلا رحمة وبلا عاقبة -كما يبدو ظاهراً- ولا يضيّعه أبداً.. بل يضع الخالقُ الرحيم ذلك المخلوق المحبوب تحت التراب الذي هو باب الرحمة موقتاً، كي يعطي ثمارَه في حياة أخرى، كما يبذر الفلاح البذور على الأرض. (9)

وبعد أن تلقيت هذا التنبيه القرآني، باتت تلك المقبرةُ عندي مؤنسةً أكثر من إستانبول نفسها، وأصبحت الخلوة والعزلة عندي أكثر لطافة من المعاشرة والمؤانسة، مما حدا بي أن أجد مكاناً للعزلة في «صارى ير» على البسفور. وأصبح الشيخ الكيلاني رضي الله عنه أستاذاً لي وطبيباً ومرشداً بكتابه «فتوح الغيب»، وصار الإمام الرباني رضي الله عنه(∗) كذلك بمثابة أستاذ أنيس ورؤوف شفيق بكتابه «مكتوبات» فأصبحتُ راضياً كلياً وممتنّاً من دخولي المشيب، ومن عزوفي عن مظاهر الحضارة البراقة ومُتعها الزائفة، ومن انسلالي من الحياة الاجتماعية وانسحابي منها، فشكرتُ الله على ذلك كثيراً.

فيا من يدلف إلى المشيب مثلي.. ويا من يتذكر الموت بنذير الشيب..! إنَّ علينا أن نرضى بالشيخوخة وبالموت وبالمرض، ونراها لطيفةً بنور الإيمان الذي أتى به القرآنُ الكريم، بل علينا أن نحبها -من جهة- فما دمنا نملك إيماناً وهو النعمة الكبرى، فالشيخوخةُ إذن طيبة والمرض طيب، والموت طيب أيضاً.. وليس هناك شيء قبيحٌ محض في حقيقة الأمر إلّا الإثم والسفه والبدع والضلالة.

الرجاء الحادي عشر

عندما رجعت من الأسر، كنت أسكن مع ابن أخي «عبد الرحمن»(∗) في قصر على قمة «چاملجة» في إستانبول. ويمكن أن تُعد هذه الحياة التي كنت أحياها حياةً مثالية من الناحية الدنيوية بالنسبة لأمثالنا؛ ذلك لأنني قد نجوت من الأسر، وكانت وسائلُ النشر مفتوحةً أمامي في«دار الحكمة الإسلامية» (10) وبما يناسب مهنتي العلمية، وأن الشهرة والصيت والإقبال عليّ تحفّ بي بدرجة لا أستحقها، وأنا ساكن في أجمل بقعة من استانبول «چاملجة»، وكلُّ شيء


Yükleniyor...