ولأنَّ تلك الآلام والمصائب قد غَرست بزوالها لذةً كامنة في الروح سالت بتخطرها على البال وخروجها من مكمنها حلاوةً وسروراً وتقطرت حمداً وشكراً. أما حالات اللذة والصفاء التي قضيتَها والتي تنفث عليها الآن دخان الألم بقولك: «وا أسفاه، وا حسرتاه» فإنها بزوالها غَرست في روحك ألماً مضمراً دائماً، وها هو ذا الألم تتجدّد غصّاتُه الآن بأقل تفكرٍ في غياب تلك اللذات، فتنهمر دموعُ الأسف والحسرة. فما دامت اللذةُ غير المشروعة ليوم واحد تذيق الإنسان -أحياناً- ألماً معنوياً طوال سنة كاملة، وأن الألم الناتج من يوم مرض مؤقت يوفر لذةً معنوية لثواب أيام عدة فضلاً عن اللذة المعنوية النابعة من الخلاص منه، فتذكّر جيداً نتيجة المرض المؤقت الذي تعانيه وفكّر في الثواب المرجو المنتشر في ثناياه، وتشبث بالشكر وترفّع عن الشكوى وقل: «يا هذا.. كل حالٍ يزول..».

الدواء السادس (4)

أيها الأخ المضطرب من المرض بتذكر أذواق الدنيا ولذائذها! لو كانت هذه الدنيا دائمةً فعلاً، ولو انزاح الموت عن طريقنا فعلاً، ولو انقطعت أعاصيرُ الفراق والزوال عن الهبوب بعد الآن، ولو تفرغ المستقبل العاصف بالنوائب عن مواسم الشتاء المعنوية، لانخرطتُ في صفك ولرثيتُك باكياً لحالك. ولكن مادامت الدنيا ستخرجنا منها قائلة: «هيا اخرجوا..!.» صامّة آذانَها عن صراخنا واستنجادنا. فعلينا نحن قبل أن تطردنا هي نابذة لنا، أن نهجر عشقَها والإخلاد إليها من الآن، بإيقاظات الأمراض والسعي لأجل التخلي عن الدنيا قلباً ووجداناً قبل أن تتخلى هي عنّا.

نعم، إن المرض بتذكيره إيانا هذا المعنى اللطيف والعميق، يهمس في سرائر قلوبنا قائلاً:

«بنيتُك ليست من الصُلبِ والحديد بل من موادَّ متباينةٍ مركبة فيك، ملائمة كل التلاؤم للتحلل والتفسخ والتفرق حالاً، دع عنك الغرور وأدرك عجزَك وتعرّف على مالكك، وافهم ما وظيفتُك وتعلّم ما الحكمة والغاية من مجيئك إلى الدنيا؟».

ثم ما دامت أذواق الدنيا ولذاتُها لا تدوم، وبخاصة إذا كانت غيرَ مشروعة، بل تبعث في النفس الألمَ وتكسبه ذنباً وجريرة، فلا تبك على فقدك ذلك الذوق بحُجة المرض، بل تفكّر


Yükleniyor...