هناك. حتى إن الوالي شكا من عملنا هذا لدى «فوزي باشا» (2) عند قدومه إلى المدينة، فأوصاه: «احترموه! لا تتعرضوا له!». إن الذي أنطقه بهذا الكلام هو كرامةُ العمل القرآني ليس إلّا، إذ حينما استولت عليَّ الرغبةُ في إنقاذ نفسي وإصلاح آخرتي، وفترتُ عن العمل للقرآن -مؤقتاً- جاءتني العقوبةُ بخلاف ما كنتُ أقصده وأتوقعه، أي نُفيتُ من «بوردور» إلى منفى آخر.. إلى «إسبارطة».

توليتُ هناك العملَ للقرآن العظيم كذلك.. ولكن بعد مرور عشرين يوماً على الخدمة القرآنية كثُرت عليَّ التنبيهات من بعض المتخوفين، حيث قالوا: ربما لا يُحبذُ مسؤولو هذه البلدة عملكَ هذا! فهلَّا أخذتَ الأمر بالتأنّي والتريث؟!.. سيطر عليَّ الاهتمامُ بخاصة نفسي وبمصيري فحسب، فأوصيتُ الأصدقاء بترك مقابلتي وانسحبتُ من ميدان العمل.. وجاء النفيُ مرة أخرى.. فنفيت إلى منفىً ثالث.. إلى «بارلا».

وكنتُ فيها كلما أصابني الفتورُ في العمل للقرآن واستولى عليَّ التفكير بخاصة نفسي وإصلاح آخرتي، كان أحدُ ثعابين أهل الدنيا يتسلط عليَّ، وأحدُ المنافقين يتعرض لي. وأنا على استعداد الآن أن أسرد على مسامعكم ثمانين حادثة من هذا النوع خلال ثماني سنوات قضيتُها في «بارلا» ولكنْ خشيةَ الملل أقتصر على ما ذكرت.

فيا إخوتي! لقد ذكرتُ لكم ما أصابتني من لطمات الرأفة وصفعات الشفقة والحنان، فإذا سمحتم بأن أسردَ ما تلقيتموه أنتم من لطمات رؤوفة أيضاً فسأذكرها، وأرجو ألّا تستاءوا، وإن كان فيكم من لا يرغب في ذكرها فلن أُصرّحَ باسمه.

المثال الثاني: هو أخي «عبد المجيد» وهو من طلابي العاملين المخلصين المضحين.. كان يملك داراً أنيقةً جميلة في «وان» وحالتُه المعاشية على ما يرام، فضلاً عن أنه كان يزاول مهنة التدريس.. فعندما استوجبتْ خدمةُ القرآن ذهابي إلى مكان بعيد عن المدينة، على الحدود، أردتُ استصحابه، إلّا أنه لم يوافق وكأنه رأى أنه من الأفضل عدمَ ذهابي أنا كذلك، حيث قد يشوبُ العملَ للقرآن شيءٌ من السياسة وقد يعرّضه للنفي، وفضّل المكوث حيث هو ولم يشترك معنا. ولكن جاءته اللطمةُ الرحمانية بما هو ضد مقصوده، وعلى غير توقع منه، إذ أُخرج من المدينة وأُبعد عن منزله الجميل وأُرغم على الذهاب إلى «أرغاني». (3)

Yükleniyor...