وبعد مدة -ولله الحمد والمنة- تراءت لي حكمةٌ عظيمة لا حد لعظمتها وغاية جليلة لا منتهى لجلالها، تراءت لي من خلال فيض نور القرآن الكريم ونبعت من سر القيومية.. فأدركت بها سراً إلهياً عظيماً في الخلق، ذلك الذي يطلق عليه طلسم الكائنات و لغز المخلوقات!

سنذكر في الشعاع الثالث هنا بضعَ نقاط من هذا السر ذكراً مجملاً حيث إنه قد فصل تفصيلاً كافياً في «المكتوب الرابع والعشرين» من «المكتوبات».

نعم، انظروا إلى تجلي سر القيومية من هذه الزاوية وهي : أن الله أخرج الموجوداتِ من ظلمات العدم ووهب لها الوجودَ، ومنحها القيام والبقاء في هذا الفضاء الواسع، وبوّأ الموجودات موقعاً لائقاً لتنال تجلياً من تجليات سر القيومية كما بينته الآيةُ الكريمة: ﹛﴿ اَللّٰهُ الَّذ۪ي رَفَعَ السَّمٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾|﹜ (الرعد: ٢). فلولا هذه الركيزة العظيمة وهذا المستند الرصين للموجودات، فلا بقاء لشيء بل لتدحرج كلُّ شيء في خضم فراغ لا حدّ له، ولهوى إلى العدم.

وكما تستند جميعُ الموجودات إلى القيوم الأزلي ذي الجلال في وجودها وفي قيامها وبقائها، وأن قيام كل شيء به سبحانه.. كذلك جميعُ أحوال الموجودات قاطبة وأوضاعها كافة وكيفياتها المتسلسلة كلها مرتبطةٌ بداياتُها ارتباطاً مباشراً بسر القيومية، كما توضحها الآية الكريمة ﹛﴿ وَاِلَيْهِ يُرْجَعُ الْاَمْرُ كُلُّهُ ﴾|﹜ (هود: ١٢٣) إذ لولا استنادُ كل شيء إلى تلك النقطة النورانية، لنتج ما هو محال لدى أرباب العقل من ألوف الدور والتسلسل، بل بعدد الموجودات. ولنوضح ذلك بمثال:

إن الحفظ، أو النور، أو الوجود، أو الرزق أو ما شابهه من أي شيء كان، إنما يستند -من جهة- إلى شيء آخر، وهذا يستند إلى آخر، وهذا إلى آخر وهكذا.. فلابد من نهاية له، إذ لا يعقل ألّا ينتهي بشيء. فمنتهى أمثال هذه السلاسل كلها إنما هو في سر القيومية. وبعد إدراك هذا السر سر القيومية لا يبقى معنىً لاستناد أفراد تلك السلاسل الموهومة بعضها بالبعض الآخر، بل تُرفع نهائياً وتُزال. فيكون كل شيء متوجهاً توجهاً مباشراً إلى سر القيومية.

Yükleniyor...