يوم- أَسرح بنظري إلى الأُفق من على ذلك التل المرتفع، رأيت بنذير الشيخوخة لوحةً من لوحات الزوال والفراق تتقطر حُزناً ورِقةً، حيث جُلتُ بنظري من قمة شجرة عمري، من الغصن الخامس والأربعين منها، إلى أن انتهيت إلى أعماق الطبقات السفلى لحياتي، فرأيت أن في كل غصن من تلك الأغصان الكائنة هناك ضمن كل سنة، جنائزَ لا تحصَر من جنائز أحبابي وأصدقائي وكل مَن له علاقة معي. فتأثرت بالغ التأثر من فراق الأحباب وافتراقهم، وترنمت بأنين «فضولي البغدادي»(∗) عند مفارقته الأحباب قائلاً:

كلّما حنَّ الوصال عَذبٌ دمعي مادام الشهيق

لقد بحثتُ من خلال تلك الحسرات الغائرة عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أُسلّى بها نفسي. فإذا بنور الإيمان بالآخرة يغيثني ويمدّني بنورٍ باهر. إنه منحني نوراً لا ينطفئ أبداً، ورجاءً لا يخيب مطلقاً.

أجل يا إخواني الشيوخ ويا أخواتي العجائز! ما دامت الآخرةُ موجودةً، وما دامت هي باقية خالدة، وما دامت هي أجمل من الدنيا، وما دام الذي خلقنا حكيماً ورحيماً؛ فما علينا إذن إلّا عدم الشكوى من الشيخوخة، وعدم التضجر منها؛ ذلك لأن الشيخوخة المشرّبة بالإيمان والعبادة، والموصلة إلى سنّ الكمال، ما هي إلّا علامة انتهاء واجبات الحياة ووظائفها، وإشارة ارتحال إلى عالم الرحمة للخلود إلى الراحة. فلابدّ إذن من الرضا بها أشدّ الرضا.

نعم، إنَّ إخبار مائة وأربعة وعشرين ألفاً من المصطَفين الأخيار وهم الأنبياء والمرسلون (3) عليهم الصلاة والسلام -كما نص عليه الحديث- إخباراً بالإجماع والتواتر مستندين إلى الشهود عند بعضهم وإلى حق اليقين عند آخرين، عن وجود الدار الآخرة، وإعلانهم بالإجماع أن الناس سيُساقون إليها، وأنَّ الخالق سبحانه وتعالى سيأتي بالدار الآخرة بلا ريب، مثلما وعد بذلك وعداً قاطعاً.

وإن تصديق مائةٍ وأربعة وعشرين مليوناً من الأولياء كشفاً وشهوداً ما أخبر به هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وشهادتهم على وجود الآخرة بعلم اليقين، دليلٌ قاطع وأيّ دليل على وجود الآخرة..


Yükleniyor...