الأمور الغيبية حينما تحصل، أو بعد قربها من الحصول ولا يعدّ ذلك معرفةً بالغيب، وإنما هو معرفةٌ بذلك الموجود، أو بالمقرّب إلى الوجود.

حتى إنني أشعر أحياناً بشعورٍ مرهف في أعصابي، بما سيأتي من الغيث قبل مجيئه بأربع وعشرين ساعة. بمعنى أن للغيث مقدماتٍ ومبادئ، فتلك المبادئ تبدي نفسَها على صورة رطوبة تُشعِر بما وراءها من الغيث، فيكون هذا الحال وسيلةً لوصول علم البشر كالقاعدة المطردة، إلى أمور قد صدرت عن الغيب وخرجت منه ولمّا دخلت بعدُ إلى عالم الشهادة.

أما معرفة نزول الغيث الذي لم يطأ قدمُه عالمَ الشهادة، ولم يخرج بعدُ من الرحمة الإلهية الخاصة بمشيئتها الخاصة، فإنما هو خاص بعلم علام الغيوب.

بقيت المسألة الثانية التي هي: معرفةُ جنس الجنين في رحم الأم بأشعة رونتكن، هذه المعرفة لا تنافي قطعاً ما تفيده الآية الكريمة: ﹛﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْاَرْحَامِ ﴾|﹜ (لقمان: ٣٤) من معنى الغيب. لأن المراد من العلم المذكور فيها لا ينحصر في ذكورة الجنين وأنوثته وإنما المرادُ منه معرفةُ الاستعدادات البديعة الخاصة بذلك الطفل والتي هي مبادئ المقدّرات الحياتية، وهي مدار ما سيكسبُه في المستقبل من أوضاع. وحتى معرفةِ ختم الصمدية وسكتِها الرائعة البادية على سيماه.. كلُّها مرادةٌ في ذلك المعنى بحيث إن العلم بالطفل وبهذه الوجوه من الأمور خاصٌّ بعلم علام الغيوب وحده، فلو اتحدت مئاتُ الألوف من أفكار البشر النافذة كأشعة رونتكن لما كشفت أيضاً عن ملامح الطفل الحقيقية في وجهه وحدَه تلك الملامح التي تحمل من العلامات التي تفرّقها وتميّزها عن كل فرد من أفراد البشرية قاطبة، فكيف إذن يمكن كشفَ السيماء المعنوية في استعداداته وقابلياته التي هي خارقة بمئات الألوف من المرات عن ملامح الوجه!

ولقد قلنا في المقدمة: إن الوجود والحياة والرحمة من أهم حقائق الكون ولها أعلى مقام ومرتبة فيه. لذا تتوجه تلك الحقيقةُ الحياتية الجامعة بجميع دقائقها ولطائفها إلى إرادة الله الخاصة ورحمته الخاصة ومشيئته الخاصة.

وأَحدُ أسرار ذلك هو أن الحياة بجميع أجهزتها منشأ للشكر، ومدارٌ للعبادة والتسبيح، ولذلك لم توضَع دونها القاعدة المطردة التي تحجب رؤيةَ الإرادة الإلهية الخاصة ولا الوسائط الظاهرية التي تستر رحمته الخاصة سبحانه.

Yükleniyor...