فالنعمة الآتية من خزينة الرحمة التي هي إحدى تجليات مراتب سمو الرحمن ورفعته غير المتناهية تُرسل من أعلى مقام إلى أسفل مرتبة بلا شك ؛ لذا فالتعبير الحق لهذا هو: «أنزلنا». والقرآن الكريم ينبّه البشر بهذا التعبير إلى أن الحديد نعمة إلهية عظيمة. نعم، إنَّ الحديد هو منشأُ جميع الصناعات البشرية ومنبعُ جميع رقيّها ومحور قوتها، فلأجل التذكير بهذه النعمة العظمى يذكر القرآن بكل عظمة وهيبة وفي مقام الامتنان والإنعام قائلاً: ﹛﴿ وَاَنْزَلْنَا الْحَد۪يدَ ف۪يهِ بَأْسٌ شَد۪يدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ﴾|﹜ كما يعبّر عن أعظم معجزة لسيدنا داود عليه السلام بقوله تعالى: ﹛﴿ وَاَلَنَّا لَهُ الْحَد۪يدَ ﴾|﹜ (سبأ:١٠). أي أنه يبين تليين الحديد معجزة عظيمة ونعمة عظيمة لنبي عظيم.

ثانياً: إن «الأعلى» و «الأسفل» تعبيران نسبيان، فيكون الأعلى والأسفل بالنسبة إلى مركز الكرة الأرضية. حتى إنَّ الذي هو أسفل بالنسبة إلينا هو الأعلى بالنسبة لقارة أمريكا. بمعنى أن المواد الآتية من المركز إلى سطح الأرض تتغير أوضاعُها بالنسبة إلى مَن هم على سطح الأرض.

فالقرآن المعجز البيان يقول بلسان الإعجاز: إنَّ للحديد منافعَ كثيرة وفوائد واسعة، بحيث إنه ليس مادة اعتيادية تخرج من مخزن الأرض التي هي مسكن الإنسان، وليس هو معدناً فطرياً يستعمل في الحاجات كيفما اتفق. بل هو نعمةٌ عظيمة أنزلَها خالق الكون بصفته المهيبة «رب السماوات والأرض» أنزلها من خزينة الرحمة وهيأها في المصنع العظيم للكون، ليكون مداراً لحاجات سكنة الأرض. فعبّر عنه بالإنزال قائلاً ﹛﴿ وَاَنْزَلْنَا الْحَد۪يدَ ﴾|﹜ لأجل بيان المنافع العامة التي ينطوي عليها الحديد وفوائده الشاملة، كما للحركة والحرارة والضياء الآتي من السماء فوائد. تلك التي ترسل من مصنع الكون. فالحديد لا يخرج من المخازن الضيقة لكرة الأرض، بل هو في خزينة الرحمة التي هي في قصر الكون العظيم ثم أُرسل إلى الأرض ووضع في مخزنها كيما يمكن استخراجه من ذلك المخزن حسب حاجة العصور تدريجياً.

فلا يريد القرآن الكريم أن يبين استخراج الحديد هذا تدريجياً من هذا المخزن الصغير، الأرض. بل يريد أن يبين أن تلك النعمة العظمى قد أنزلت من الخزينة الكبرى للكون مع كرة الأرض، وذلك لإظهار أن الحديد أكثر ضرورة لخزينة الأرض. بحيث إن الخالق الجليل عندما فصل الأرضَ عن الشمس أنزل معها الحديد ليحقق أكثر حاجات البشر ويضمنها.

Yükleniyor...