تدعو إلى الدهشة، حيث أكملت سياحة الفرار الطويل بسهولة ويسر كبيرين، بحيث لم يكن لينجزها أشجع الأشخاص وأذكاهم وأمكرهم وممن يلمّون باللغة الروسية.

ولكن حالتي في تلك الليلة التي قضيتُها في الجامع على ضفاف «فولغا» قد ألهمتني هذا القرار:

«سأقضي بقية عمري في الكهوف والمغارات معتزلاً الناس.. كفاني تدخلاً في أمورهم. ولما كانت نهاية المطاف دخول القبر منفرداً وحيداً، فعليّ أن أختار الإنفراد والعزلة من الآن،لأعوّد نفسي عليها!.».

نعم، هكذا قررت.. ولكن -ويا للأسف- فإن أحبابي الكثيرين المخلصين في استانبول، والحياة الاجتماعية البهيجة البرّاقة فيها، ولاسيما ما لا طائل فيه من إقبال الناس والشهرة والصيت.. كل ذلك أنساني قراري ذلك لفترة قصيرة. فكأنَّ ليلةَ الغربة تلك هي السواد المنوّر البصير لعين حياتي، وكأنَّ النهارَ البهيج لحياة إستانبول هي البياض غير البصير لعين حياتي. فلم تتمكن تلك العين من رؤية البعيد، بل غطّت ثانية في نوم عميق، حتى فتحها الشيخ الكيلاني بكتابه «فتوح الغيب» بعد سنتين.

وهكذا أيها الشيوخ، ويا أيتها العجائز!.. اعلموا أن ما في الشيخوخة من العجز والضعف ليسا إلّا وسيلتين لدرّ الرحمة الإلهية وجلب العناية الربانية.. فإنني شاهد على هذه الحقيقة في كثير من حوادث حياتي، وإن تجلي الرحمة على سطح الأرض يظهرها كذلك بشكل واضح أبلج؛ لأنَّ أعجزَ الحيوانات وأضعفها هي صغارُها، والحال أن ألطفَ حالات الرحمة وألذَّها وأجملَها تتجلى في تلك الصغار، فعجزُ الفرخ الساكن في عشّه على شجرة باسقة، يستخدم والدته -بتجلي الرحمة- كأنها جندية تنتظر الأوامر. فتحوم حول الزروع الخضر لتجلب الرزق الوفير لفرخها الصغير، ولكن ما إن ينسى الفرخُ الصغير عجزه -بنموّ جناحَيه وتكامله- حتى تقول له والدته: عليك أن تبحث عن رزقك بنفسك. فلا تعود تستجيب لندائه بعد ذلك.

فكما يجري سرُّ الرحمة هذا على هذه الصورة بحق الصغار، يجري كذلك من زاوية الضعف والعجز، بحق الشيوخ الذين أصبحوا في حُكم الصغار.


Yükleniyor...