الأجلاء، دخل هذا الصحابي الجليل يوماً في مناقشة حادة لدى تعامله في السوق على شيء لا يساوي قرشاً واحداً، حفاظاً على الاقتصاد وصوناً للأمانة والاستقامة اللتين تدور عليهما التجارة. (10) في هذه الأَثناء رآه صحابي آخر، فظنّ فيه شيئاً من خسّة فاستعظمها منه، إذ كيف يصدر هذا الأمر من ابن أمير المؤمنين وخليفة الأرض. فتبعه إلى بيته ليفهم شيئاً من أحواله، فوجد أنه قضى بعض الوقت مع فقير عند الباب وتبادلا حديثاً في لطف ومودة، ثم خرج من الباب الثاني وتجاذب أطراف الحديث مع فقير آخر هناك. أثار هذا الأمر لهفة ذلك الصحابي فأسرع إلى الفقيرين للاستفسار منهما:

- هلّا تفهمانني ماذا فعل ابن عمر حينما وقف معكما؟.

- لقد أعطى كلاً منا قطعة ذهب.

فراعه الأمر وقال شدهاً: يا سبحان الله.. ما أعجب هذا الأمر، إنه يخوض في السوق في نقاش شديد لأجل قرش واحد، ثم ها هو ذا يغدق في بيته بمئات أضعافه على محتاجَين اثنين عن رضىً دون أن يشعر به أحد، فسار نحو ابن عمر رضي الله عنهما ليسأله:

- أيها الإمام: ألا تحل لي معضلتي هذه؟ لقد فعلتَ في السوق كذا وكذا وفي البيت كذا وكذا؟! فردّ عليه قائلاً:

- إن ما حدث في السوق هو نتيجة الاقتصاد والحصافة، فعلتُه صوناً للأمانة وحفظاً للصدق اللذين هما أساس المبايعة وروحها وهو ليس بخسّةٍ ولا ببخل، وإن ما بدر مني في البيت نابع من رأفة القلب ورقّته ومن سمو الروح واكتمالها.. فلا ذاك خسّة ولا هذا إسراف.

وإشارةً إلى هذا السرّ قال الإمام الأعظم «أبو حنيفة النعمان» رضي الله عنه: «لا إسراف في الخير كما لا خير في الإسراف» (11) أي كما لا إسراف في الخير والإحسان لمن يستحقه كذلك لا خير في الإسراف قط.


Yükleniyor...