كنت أتأسف كثيرا -في وقت ما- على زوال أزاهير الربيع وفنائها بسرعة، حتى كنت أتألم لحال تلك اللطيفات، ولكن الحقيقة الإيمانية التي وَضحت هنا قد بيّنتْ أن تلك الأزاهير -كما ذكر- هي بذور ونوى في عالم المعنى تثمر كالشجرة والسنبل جميعَ أنواع ذلك الوجود -عدا الروح- كما ذكر؛ فما تغنمه إذن تلك الأزاهيرُ من حيث نور الوجود هي مائة ضعف وضعف لما تفقده من وجود، إذ وجودُها الظاهري لا يُمحى بل يختفي.. فضلا عن أن تلك الأزاهير هي صورٌ متجددة لحقيقتها النوعية الباقية؛ إذ موجودات الربيع الماضي من أوراقٍ وأزاهيرَ وثمراتٍ وأمثالِها هي أمثالُ ما في هذا الربيع. والفرق هو اعتباريّ فحسب، ففهمت أن هذا الفرق الاعتباري أيضا إنما هو لإضفاء معانيَ متعددة ومختلفة على كلمات الحكمة هذه، وعباراتِ الرحمة وحروفِ القدرة الإلهية هذه. وهذا الفهم دفعني إلى أن أردد: «ما شاء الله، بارك الله»، بدلا من أن تذهب نفسي حسراتٍ على زوال تلك الأزاهير.

ولقد شعرت من بعيد -بشعور الإيمان ببديع السماوات والأرض وبرابطة الانتساب إليه- كم يكون الإنسان -لو كان ذا شعور- فَخورا ومكرّما، بأنه أثر من آثار ذلك الخالق القدير وأنه مصنوعُ مَن زيّن السماواتِ بمصابيحِ النجوم، وجمّل الأرض بالأزاهير وببدائع المخلوقات، وأظهرَ مئاتِ المعجزات في كل ما أبدعتْه قدرتُه. وكم يكون الإنسان مناطَ قيمة عظيمة وكرامة فائقة بالإيمان به والانتساب إليه والشعور به لاسيما إذا ما كَتب -ذلك الصانعُ المعجز المطلق- كتابَ السماوات والأرض، ذلك الكتابَ الضخم في نسخة مصغرة وهي الإنسان، وإذا ما جَعل هذا الإنسانَ منتخَبا وخلاصةً كاملة لذلك الكتاب، فإنه سيملك ذلك الشرف والكمال والقيمة العالية بالإيمان وبالشعور والانتساب.

ولما كنت قد تعلمت هذا الدرس من الآية الكريمة: ﹛﴿ حَسْبُنَا اللّٰهُ وَنِعْمَ الْوَك۪يلُ ﴾|﹜، فقد تلوتها وأنا أحمل نية وتصورا، وإنني أتلوها بلسان الموجودات كلها.

المرتبة النورية الحسبية الخامسة

لقد تصدّعتْ حياتي حينا تحت أعباء ثقيلة جدا، حتى لفتت نظري إلى العمر، وإلى الحياة فرأيت أن عمري يجري حثيثا إلى الآخرة.. وأن حياتي التي قربت إلى الانتهاء قد توجهت نحو الانطفاء تحت المضايقات العديدة. ولكن الوظائف المهمة للحياة ومزاياها الراقية وفوائدها


Yükleniyor...